الأربعاء، 28 مارس 2012

أحمد لبده... الشاهد المــخفي في جريمة الحريري (2)

يخفي مكتب المدعي العام في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان «أدلة» يدعي أنها مكّنته من توجيه الاتهام للأشخاص الأربعة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولرفيقهم الخامس. وأكثر هذه «الأدلة صلابة» بنظر المحققين، إفادة شاهد لبناني تكشف «الأخبار» مضمونها وتضيء على بعض الثغر الموجودة فيها
في 10 حزيران 2011، صدّق قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القرار الإتهامي الأول في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي وجّه الاتهام إلى أربعة أشخاص بالمشاركة في تنفيذ الجريمة. واعتمد فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام الدولي في اتهامه على أدلة ظرفية قوامها داتا الاتصالات الخلوية، من دون وجود شهود مباشرين. ما تكشفه «الأخبار»، اليوم، هو قصة الشاهد الملك لدى فريق الادعاء، وهو الشخص الوحيد في الملف الذي قدّم إفادة مباشرة بعيداً عن تحليل الاتصالات واستنتاجاتها الظرفية. وجاء كل السياق السردي الذي رسمه الادعاء في قراره الإتهامي كتصور افتراضي لما استنتجه المحققون من حركة الهواتف الخلوية، من دون أن تؤيده أدلّة مباشرة.
ففريق التحقيق قسّم الهواتف الخلوية التي ربطها بالجريمة الى خمس شبكات: حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء وأرجوانية. ولكلّ من مستخدمي هذه الشبكات مهمته، رغم التداخل بين المستخدمين المفترضين للشبكات الأربع الأولى، وفقاً لاستنتاجات محققي مكتب الادعاء العام في المحكمة. لكن مستخدمي الشبكة الأرجوانية كانت لهم مهمة خاصة ووحيدة: أحمد أبو عدس وفيلمه الشهير.
ومستخدمو الشبكة الأرجوانية، بحسب فريق تحقيق المدعي العام الدولي، هم ثلاثة أشخاص لا غير: حسين عنيسي وأسد صبرا (ورد اسماهما في القرار الاتهامي الأول)، والشخص الذي يُنتظر أن يصدر اسمه في قرار اتهامي مقبل، أي حسن مرعي.
تقول رواية بلمار وفريقه إن عنيسي انتحل اسم «محمد»، وتعرّف خلال الشهرين السابقين للجريمة (بين 22 كانون الأول 2004 و17 كانون الثاني 2005) على أبو عدس، واختاره ليكون الانتحاري المفترض أو المُعْلِن عن العملية. وأبو عدس فلسطيني في الثانية والعشرين من عمره التقاه «محمد» ــــ بحسب رواية التحقيق ــــ في مسجد جامعة بيروت العربية، المعروف أيضاً بـ «مسجد الحوري». وفي 16 كانون الثاني 2005 (أي قبل نحو شهر من الجريمة) اختفى أبو عدس بعدما غادر منزله للقاء «محمد». وبناءً على حركة الهاتف الخلوي للرقم المنسوب الى المتهم عنيسي، فإن الأخير لم يجرِ أي اتصال من هاتفه في اليوم الذي اختفى فيه أبو عدس، ما عزز استنتاج المحققين بأنه هو منتحل اسم «محمد». وتضيف رواية بلمار أن كلاً من عنيسي وصبرا تواصلا هاتفياً مع مرعي، وأن دور هذه المجموعة اقتصر على التعرّف على أبو عدس وإيصال شريطه إلى مكتب قناة الجزيرة الفضائية ومكتب وكالة رويترز في بيروت.
لكن ما تم إخفاؤه من القرار الاتهامي هو اعتماد الادعاء على إفادة «شاهد ملك» استخدمت لتحديد هوية «محمد». وبالتالي، فمضمون الإفادة هو الجزء الأكثر إثارة في التحقيق الدولي، ولا يُتوقع أن ترد في أي قرار اتهامي علني. فبلمار وفريقه قررا إبقاءها كمفاجأة الى ما بعد بدء المحاكمات، كونها الإفادة اليتيمة التي تدعم استنتاجات دليل الاتصالات.
ومن هذا المنطلق، تعامل مكتب المدعي العام مع الشاهد المذكور على قدرٍ عالٍ من الأهمية، وأولاه عناية خاصة لجهة ما يحتاجه من إجراءات حماية تُحافظ عليه وعلى هويته. لكن، وكما بات مثبتاً بالتجربة (منذ رواية صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية عام 2006 وصولاً إلى ما نشرته هيئة الإذاعة الكندية عام 2010، مروراً بدير شبيغل عام 2009) فإن التحقيق الدولي، ومنذ عهد ديتليف ميليس وصولاً إلى دانيال بلمار (وربما خلفه نورمان فاريل؟)، لم يلتزم المعايير القانونية في الحفاظ على سرية الوثائق والتحقيقات، ولا حتى على سرية الشهود. ووصل هذا «الاستهتار» إلى حد تسريب التسجيلات الصوتية الكاملة للشهود.
وفي ما يأتي فصل جديد من فصول هذه التسريبات. فمن هو الشاهد الملك؟ وما هو مضمون شهادته؟ وهل فعلاً تؤيد شهادته استنتاجات المحققين؟
الهوية الكاملة للشاهد
الإسم الكامل: أحمد محمود محمد لبده.
اسم الأم: هدى البقار.
الجنسية: لبناني.
تاريخ الولادة: 13/4/1985
مكان ورقم السجل: النوري 720.
السكن: طرابلس، البحصاص، وفي العام 2010 انتقل لأسباب أمنية الى الضنية.
العمل: مدرس مادة البيولوجي في إحدى «مدارس الإيمان» في الشمال.
مضمون شهادة لبده
يقول أحمد لبده إنه يعرف الشخص المنتحل لاسم «محمد»، والذي يفترض المحققون أن له دوراً في قضية أبو عدس. فلبده، بحسب إفادته أمام المحققين الدوليين، تعرَّف على «محمد» في كانون الأول 2004، بعدما استوقفه الأخير داخل مسجد الجامعة العربية طالباً منه تعليمه الصلاة. وعرّف عن نفسه باسم «محمد»، فاتفقا على موعد داخل المسجد. ولكن لبده تأخر عن الموعد لأسباب قاهرة، ولم يلتقِ بمحمد مجدداً. بعد نحو أسبوع ــ يتابع لبده في إفادته ــ اختفى أبو عدس الذي اعتاد الحضور يومياً الى مسجد الجامعة العريبة. وعلم لبده لاحقاً بأن والدة أبو عدس ذكرت أن ابنها تعرف في المسجد على شخص يُدعى «محمد»، وأنه ولِد لأبوين مسلمين، ولكنه نشأ في ميتم مسيحي ويريد العودة للإسلام، وأن ابنها يوم اختفائه أخبرها أنه ذاهب للقاء «محمد». لكن الثغرة في رواية والدة أبو عدس تكمن في أنها لم تشاهد «محمد» المذكور أبداً، ما عزز الاعتقاد لدى لبده بأن «محمد» هذا هو نفسه «محمد» الذي التقاه داخل المسجد، والمتورط باعتقاده في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.
في العام 2010 (أي بعد أكثر من 5 سنوات على الحادثة)، قابل المحققون الدوليون أحمد لبده، وعرضوا مجموعة صوَر عليه بهدف التعرف على «محمد»، وكانت من ضمنها صورة لعنيسي وأخرى لشريكه المفترض أسد صبرا. «تعرّف» لبده على عنيسي. لكن المحققين لم يوردوا أي تقويم لإفادته، وبالتالي ليس معروفاً ما إذا كان «الشاهد» متأكداً من صاحب الصورة وقاطعاً أم بدا متردداً ومشككاً؟ وهل تم الإيحاء إليه من قبل المحققين أم أنه بادر من تلقاء نفسه إلى تحديد صورة عنيسي؟
قيمة شهادة لبده
تسمح ظروف تعرف لبده على صورة عنيسي بإضعاف قيمة الإفادة، وجعلها غير ذات محتوى فعلي، بناءً على المعطيات الآتية:
أولاً: إن الفترة القصيرة جداً التي قضاها أحمد لبده بالحديث مع «محمد» (عام 2004) تطرح سؤالاً حول قدرته على تحديد هذا الشخص بشكل أكيد بعد أكثر من خمس سنوات على الحادثة، ناهيك بأن الصورتين الفوتوغرافيتين المتوافرتين لحسين عنيسي (راجع الموقع الالكتروني للمحكمة والصورتين في الإطار) واللتين عرضتا على الشاهد، هما في الأصل غير واضحتين، ويُمكن ملاحظة حجم الفارق بينهما، إذ يراود الناظر إليهما الشك في أنهما تعودان الى الشخص نفسه.
ثانياً: إن الأوصاف التي قدمها أحمد لبده لـ «محمد» في رسالة وصلت عام 2007 الى لجنة التحقيق الدولية وتحمل الرقم (60015066 – 60015069 T، بحسب أرشيف المحكمة الخاصة بلبنان)، هي على الشكل الآتي: عمره نحو 25 سنة، أبيض الوجه، حليق الذقن، عيونه زرقاء وكبيرة، لا يضع نظارات، شعره كستنائي ويسرّحه على الجهة اليسرى، طوله نحو 170 ــــ 175 سم.
ومن يعرف حسين عنيسي، أو حتى يرى صورتيه، يُدرك أن هذه المواصفات لا تنطبق عليه. فهو حنطاوي البشرة، أسود الشعر، عيناه داكنتان، وكان في العام 2004 في الـ31 من العمر.
يُضاف، استناداً الى وثائق التحقيق الدولي، أن عبد الرحمن حرب، جار أبو عدس، كان أيضاً قد رأى «محمد» لمرتين برفقة أبو عدس. والإفادة التي قدمها للمحققين في كانون الثاني 2008 (تحمل الرقم 60064874 ــ60064889، بحسب سجلات المحكمة) تُظهر أن الوصف الذي قدمه يختلف عن وصف لبده لـ «محمد». فالأخير، بحسب حرب، أصغر سنّاً، وأقصر قامة مما حدده لبده في إفادته.
كذلك ذكر الشيخ طه قنواتي، إمام مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة، في إفادته أمام المحققين الدوليين في شباط 2007 (الرقم 60018821 ــ 60018836) أن أبو عدس أخبره قبل نحو ستة أشهر من اغتيال الحريري عن شخص اسمه «محمد» تحوّل أخيراً إلى الإسلام. وطلب أبو عدس من قنواتي إعطاء «محمد» بعض الدروس الدينية. لكن قنواتي اعتذر لضيق الوقت. وما يجدر التوقف عنده في هذه الإفادة أن قنواتي يذكر جيداً تاريخ حديثه مع أبو عدس، وهو متأكد منه كونه جاء قبل سفره الطويل إلى خارج لبنان في أيلول 2004، والذي استمر خمسة أشهر، أي حتى شباط 2005. والتاريخ الذي حدده الشيخ قنواتي يتعارض مع التاريخ الذي بنى عليه التحقيق الدولي نتائجه في تحليل داتا الاتصالات للقول إن الهاتف المنسوب الى حسين عنيسي ظهَر في محيط الجامعة العربية نهاية العام 2004، أي في الفترة التي التقى فيها «محمد» وأحمد أبو عدس.
ثالثاً: يستغرب عارفو حسين عنيسي استناد المحققين في تحليلاتهم على كون الهاتف المنسوب لعنيسي ظهَر في منطقة الجامعة العربية ــ المدينة الرياضية. فالوجود المفترض لعنيسي في تلك المنطقة لا يعني شيئاً، بكل بساطة، لأن لحسين عنيسي مؤسسة تجارية في المنطقة المذكورة. وتردده إليها ليس سوى جزء من حياته العادية.
في المحصلة، تدحض هذه الوقائع، سواء منها ما هو مرتبط بحركة الهاتف الخلوي لعنيسي، او ما يتعلق بإفادة الشاهد التي يتعامل معها فريق التحقيق كـ «درة تاج» أعماله، ما يشيعه المحققون منذ العام 2005 بشأن التزامهم «أعلى معايير العدالة الدولية». ومن جديد، يصبح مشروعاً طرح سؤال حول جدوى إنفاق عشرات ملايين الدولارات التي أهدِرَت على التحقيق الدولي منذ وصول لجنة تقصي الحقائق إلى لبنان، بعد أيام على وقوع الجريمة.
الوالد في المونتيفيردي
في العام 2010، تغيّرت حياة أحمد لبده رأساً على عقب وتراجع عن فكرة عقد قرانه آنذاك بعد ورود اتصال من مسؤول وحدة حماية الشهود في المحكمة الدولية الأسترالي كريس أوبراين تحدث فيه مع محمود لبده (والد أحمد). شرح أوبراين له طبيعة المعلومات التي قدمها ابنه الى التحقيق والتي تجعل حياته في خطر. على اثر ذلك، جن جنون الوالد فذهب الى مقر المحكمة الدولية في لبنان في المونتيفردي، ودخل بطريقة تكاد تكون اقتحامية، وبدأ بالصراخ موجهاً اللوم الى المحققين بسبب أسلوب عملهم الذي وصفه بأنه غير احترافي ويُعرض هوية الشهود وحياتهم للخطر.
حسن مرعي في ملفات المحكمة: رأس الشبكة «الأرجوانية»
ماذا سيحوي القرار الاتهامي المعدل في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟ تؤكد المعلومات المتوفرة من المحكمة الدولية إن الشخص الإضافي الذي طلب المدعي العام الدولي السابق دانيال بلمار اتهامه بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هو حسن مرعي. وتقول رواية فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام إن حسن مرعي هو قائد المجموعة التي استخدمت شبكة الهواتف «الأرجوانية»، والتي كانت مهمتها تنحصر في الشق المتعلق بأحمد أبو عدس. وتضم هذه المجموعة إلى مرعي كلاً من المتهمَين أسد صبرا وحسين عنيسي. وهؤلاء استخدموا، بحسب رواية التحقيق الدولي، الأرقام الهاتفية الآتية: 03261341، 03618254، 03628231.
وتضيف الرواية الدولية أن مرعي كان يتولى تنسيق مهمات مجموعته مع سليم عياش (المتهم في القرار الأول)من خلال الاتصال بالأخير على هواتفه الشخصية. ويكمل المحققون الدوليون قائلين إن صبرا وعنيسي كانا على تواصل دائم مع حسن مرعي طوال فترة عملهما على استدراج أبو عدس وتصوير الفيلم الذي تبنى فيه عملية اغتيال الحريري. وكذلك بقيا على تواصل مع مرعي خلال العمل على إيصال شريط أبو عدس إلى مكتب قناة الجزيرة الفضائية في بيروت، كما خلال الاتصالات بمكتب وكالة رويترز في العاصمة اللبنانية.
واللافت في هذا الجزء من الرواية ان هذه الأرقام مستخدمة من قبل الأشخاص الثلاثة، وأيضاً على ذمة مكتب المدعي العام الدولي، منذ العام 2003. وأكثر ما يلفت الأنظار في الرواية الدولية هو أن سليم عياش لم يكن يستخدم للاتصال بمرعي سوى أرقام هواتفه الخاصة، أي تلك التي يستخدمها للاتصال بعائلته وأصدقائه، علماً بأن الجهد الجدي وشبه الوحيد الذي بذله المحققون الدوليون منفردين، (أي من دون فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي) تمحور حول كيفية تحديدهم لأحد أرقام الهواتف الشخصية لسليم عياش.
*الأخبار*

0 التعليقات:

إرسال تعليق