الثلاثاء، 15 مايو 2012

أحداث طرابلس على حقيقتها:الشيخ سالم صار أميراً والعميد عبود يستنسخ حزب الله

السفير – الأخبار -
الأحداث الشمالية لا تزال تستحوذ على إهتمامات معظم السياسيين واللبنانيين، خصوصاً الطرابلسيين منهم لما لها من إنعكاسات مباشرة على حياتهم أمنهم ومعيشتهم، فما هو جديد تحليلات الإعلاميين في هذا المجال.
الاتصالات التي أجريت خلال ساعات مساء أمس ادّت إلى التوصل لوقف إطلاق للنار في طرابلس، بعدما كان الجيش يحاذر الانتشار على خطوط التماس بين المتقاتلين. واليوم صباحاً بدا الجيش اللبناني ينتشر في باب التبانة بعدما أنهى إنتشاره في جبل محسن، وبالتالي ما هي حقيقة الوضع هناك وما هي خلفية تدهور الأحداث في طرابلس؟
الأمير المحبوب
كتب إيلي حنا في جريدة الأخبار عن الشيخ سالم الرفاعي الأمير المحبوب: «خطيب الشمال الأول» لا يحب الإعلام. نظم مجلس شوري في مسجد التفوى لتشاور المؤمنين والتناصح. أخصامه يعترفون بتعاظم نفوذه. أما الأنصار فبايعوه أمس إمارتهم، واضاف الكاتب "لا يشبه الشيخ سالم الرافعي نظراءه بشيء. عشر دقائق مختصرة أسبوعياً في خطبة الجمعة يتابعها مئات داخل مسجد التقوى، وآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي. تنقّل الرجل الخمسيني بين جامعة المدينة المنورة، ثم جامعة القرآن الكريم في أمّ درمان السودانية ليحصل على شهادة الدكتوراه، مروراً بجامعة البنجاب الباكستانية. الشيخ سالم رجل علم. صاحب عشرات الكتب والأبحاث.
ويضيف حنا في تقريره عن الأمير "عام2005، حصل تحوّل في حياته. رُحّل من ألمانيا بعدما قضى فيها ما يزيد على عشر سنوات. ألغت السلطات الألمانية سمة «الإقامة المفتوحة» عن جواز سفره. وتهمته أنه يتخذ من مقرّ المسجد عنواناً رسمياً له، وهذا الأمر يعدّ غشاً وتزويراً. بينما قال مريدوه في برلين إن إبعاد الرافعي يندرج في سياق «خطوات التضييق الأمني التي تمارس على المسلمين بحجة مكافحة الإرهاب ومحاربة الدعوات المعادية للسامية والشاجبة لبعض تفاصيل الحياة في المجتمعات الغربية».
الرافعي كان قد انشق عن حركة التوحيد الإسلامية عام 1985. وهو اليوم مشغول بالتدريس في المساجد والمعاهد الشرعية، الى جانب إمامة مسجد التقوى. ويقول مقرّبون منه إنه «الخطيب الأول في الشمال، إن لم يكن في لبنان». وهو يتمتع بقدرات جذبت مجموعة من المشايخ نحوه، بينهم الشيخ نبيل زيادة، أحد كبار القادة لدى كنعان ناجي، كذلك الشيخ جلال كلش والشيخ موسى القرحاني المعروف بكثرة حراكه التنظيمي.
الشيخ سالم لا يحب الظهور الإعلامي. ينصح أصدقاءه المشايخ بالابتعاد عن الإعلام «حيث تحريف الكلام واستغلاله»، وهو يؤمن فقط بالمنبر، حيث يحب المصلّون خطبه.
صار للشيخ تأثيره خارج المسجد. وعبارة «الشيخ بيمون على الكل» تسمع في أزقة طرابلس وجوارها. والشيخ يتنقل بين منزل العائلة على طريق الميناء نحو منطقة الضم والفرز. يستقبل الرافعي في الصباح مجموعات كبيرة من الشباب الذين يحدثونه عن مشاكلهم أو «طالبي العلم». جدوله مليء بالمواعيد واللقاءات. ويعمل الرافعي على تأمين وظائف ومساعدات لزواره. يسمع حديث كل فرد على حدة، حتى لو علم أنه لا يستطيع المساعدة... والأهم أخيراً، هو الدور الإضافي للشيخ الرافعي إثر اندلاع الأزمة السورية. وهو أعلن من على المنبر أن «طرابلس مع الثورة السورية».
مالياً، «الشيخ نزيه». خاض بنجاح اختبار مساعدة النازحين السوريين. وهو تلقى أموالاً لمصلحة هؤلاء، ويقرّ له الأعداء قبل الأصدقاء بأنه أنفق الأموال حيث يجب. الناس يرددون «الشيخ سالم موثوق... إنه لا يشبه الآخرين».
اليوم، الشيخ سالم في الميدان، لم يفارق، يوم أمس، ساحة النور، حيث يعتصم مع عشرات الإسلاميين للمطالبة بإطلاق سراح شادي المولوي. يقول الرافعي أمام الجمهور: «شادي يخصني، وعلاقته بالثورة السورية شرف كبير نفتخر به». وفي المجلس عينه، ينتقد الرافعي بيان الرئيس سعد الحريري بشأن رفع الغطاء عن المخلّين بالأمن. يرفض صاحب العلاقة الجيدة مع نواب «المستقبل» وكبار الأمنيين الشماليين أن يفرض عليه أيّ قرار.
أمس، بايع الأنصار الشيخ سالم وصار أميراً!...
دنمركيين ولبناني...
وفي تقرير لجريدة الأخبار عن حسام الصباغ عادت لصحيفة الى جريدة السمتقبل الى العدد العدد 3428 الصادر بتاريخ 19 أيلول 2009 لتشير الة اعتراف حسين العمر بالانتماء إلى تنظيم فتح الإسلام يومها حسين العمر أمام المحكمة العسكرية بأن حسام الصباغ أعطاه الحقيبة المليئة بالسلاح التي ضبطت عنده.
ونفى العمر أن يكون «الصباغ الذي التقى به في لبنان بعد تعرفهما على بعضهما في أوستراليا قد زوّده بقرص مدمج يحوي كيفية صنع العبوات والمتفجرات». أما صحيفة التمدن الطرابلسية فتروي بعد خمسة أشهر على انطلاق أحداث البارد عن «مداهمة الجيش لمنزل عمر حدبا» الذي يُعَدّ الصديق الأقرب للصباغ و«عثورها على بعض الأسلحة الخفيفة، قبيل مداهمة الجيش نفسه ثلاث غرف يملكها حدبا في منطقة الزيتون ألقي القبض فيها على دنماركيين ولبناني». وفي اليوم نفسها، 25 حزيران 2007، أشارت صحيفة الحياة إلى عثور الجيش في شقة حدبا على «أسلحة وذخيرة وعتاد عسكري وأقنعة وألبسة سود، إضافة إلى رزم من أصابع الديناميت تكفي للسيطرة على منطقة أبي سمراء بكاملها وربما إعلانها «إمارة مستقلّة»!». وحدبا ليس إلا واحداً من الشبان الجهاديين المقربين ممن يصفه بعض المطلعين الطرابلسيين بالقائد الأول للجهاديين السلفيين في مدينة طرابلس: حسام الصباغ (واسمه على الجهاز: حسين). يحمل الأخير الجنسية الأوسترالية، وهو بالنسبة إلى القضاء اللبناني وأجهزة الأمن: متوارٍ عن الأنظار منذ أكثر من عامين. أما ميدانياً، فيؤكد أحد المطلعين عن كثب على تحرك السلفيين في باب التبانة تحرك الأخير بكل حرية في الأحياء الطرابلسية، منظماً على مسمع وأعين عناصر الاستخبارات الاجتماع تلو الآخر. ويروي أحد الأمنيين أن الصباغ كان الأقرب إلى القيادي السلفيّ وليد البستاني الذي نشرت قناة «الأو تي في» أخيراً مشاهد محاكمته وإعدامه، في ظل تأكيد المصدر نفسه أن الصباغ هو الذي كلف البستاني الصعود إلى سوريا، وهو يعتبر اليوم في التقارير الأمنية القائد الأول على صعيد تنظيم المجموعات، ترتيبها وتكليفها أعمالاً عسكرية في سوريا.
في ظل إجماع سلفي على استقلالية الصباغ المطلقة عن التيارات السياسية اللبنانية وسفارات الدول الإقليمية. مع تأكيد المعنيين أن الصباغ لا ينتمي إلى تنظيم القاعدة لكنه يعتبر الشخصية اللبنانية الأقرب في القدرة التنظيمية والجدية في العمل إلى التنظيم. ويشير هؤلاء إلى تبني التنظيم غالباً علانية قنابل صوتية وشخصيات فولكلورية تستقطب الإعلام، فيما يعمل ناشطوه الحقيقيون في السر، من دون أن يعلم أحد بانتمائهم إلى القاعدة. يشار أخيراً إلى أن الصباغ عاد ومجموعته إلى لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقد حاولوا التنسيق مع مجموعة فتح الإسلام التي كانت تعتبر التنظيم الإسلامي الأقرب إلى القاعدة في لبنان، لكن نقاط خلافهم طغت على نقاط الالتقاء، فافترقا حتى بدأت معركة نهر البارد، فبدأت استخبارات الجيش بمطاردتهم.
إخراج الجيش من الشمال؟
وينقل غاصب المختار في جريدة السفير عن مصادر أمنية لبنانية انه كان من المُتوقع ان ينفجر الوضع الامني في طرابلس، منذ أشهر عدة، خاصة بعد ان فتح احد نواب عكار النار على الجيش، بسبب خلاف شخصي مع احد الضباط في الشمال، ثم تصاعدت الحملة تباعا لاغراض سياسية داخلية واقليمية، الى ان كانت الشرارة غير المبررة توقيف شادي المولوي من قبل الامن العام، علما بأن مصادر الامن العام تقول ان توقيفه جاء على خلفية وضع اليد على شبكة يشتبه بوجود صلة لها بتنظيم «القاعدة».
وتعتقد جهات امنية رسمية مسؤولة ان مخاطر ما جرى، تكمن في ان المطلوب على ما يبدو إخراج الجيش كليا من منطقة الشمال، تحت حجج وذرائع شتى، لأنه بات يشكل «ازعاجا» واضحا لحركة نقل السلاح والمسلحين الى المناطق السورية، عدا عن ان الجيش يقف حاجزا قويا امام محاولات اقامة منطقة آمنة او عازلة سواء في عكار او سواها، ليس دفاعا عن النظام السوري كما يدعي البعض، انما دفاعا عن استقرار لبنان، لأن استباحة مناطق عكار وطرابلس ستخلق واقعا امنيا وساسيا تستحـــيل السيطرة عليه مستقبلاً، وتفتح مستقبل الوضع اللبناني على المجهول.
عميد حمود... الظل الأمني لـ«المستقبل»
وفي تحقيق لرضوان مرتضى عن الذراع الأمني لتيار المستقبل في الشمال كتب "العميد حمود بلحيته الخفيفة التي تُخبئ خلفها جذوراً إسلامية. يتميّزُ حاملها بنظرة ثاقبة، لكنها محصورة بـ«مظلومية أهل السنّة». لا يجهد في إخفاء نفسه القتالي. ورغم أن الاعتدال سمة يحرص تيار «المستقبل» على إظهارها، إلا أنه يصعب أن يُخيّل لجليس الرجل أصلاً أنه يدّعي الاعتدال.
ويقول مرتضى في تحقيقه: بحسب وصف أحد رجال الدين الشماليين المؤيدين له. يحمل حمود لواء الدفاع عن الطائفة، متجاوزاً في حميّته النائب العكاري خالد الضاهر بأشواط. يجهد في إظهار الحرص على الطائفة، كحرصه الدائم على إظهار كرهه لـ«حزب الله». يفخر بأنه خلع بزة الجيش اللبناني عام 2008، خلال أحداث أيار، احتجاجاً على «أداء المؤسسة العسكرية التي لم تقم بواجبها في حماية أهل السنّة». يبدو الرجل متأثراً بتجربة حزب الله التي «نقلت الطائفة الشيعية إلى خانة الأقوى لبنانياً». انطلاقاً من ذلك، يقول متابعو حمود عن كثب إنه «يجهد لاستنساخ تجربة حزب الله لإسقاطها على الطائفة السنيّة»، وبالتحديد في منطقة طرابلس والشمال. ولو أمكنه عزل المدينة ومحيطها عن باقي مناطق لبنان لفعل من دون تردد.
ينطلق حمود من قاعدة تجد في المال والسلاح والعصبية المذهبية شروطاً ثلاثة لبناء كيانٍ قوي، فينشط في استجلاب المساعدات والدعم. وبهذا المال يشتري السلاح، يجمعه ويوزّعه على أتباعه. أما العصبية الدينية فيعززها بواسطة رجال دين متطرّفين يكثرون في طرابلس. يعاونه في ذلك ثلاثة رجال (عسكريون سابقون) يشبهونه ويشاطرونه الحلم نفسه.
تردد اسم حمود في أكثر من مقام، فكانت أصابع الاتهام تُوجّه إليه عند حصول أي هزة أمنية، وبالتحديد في منطقة الشمال. جرى التداول باسمه في الأروقة الأمنية باعتباره الشخصية التي تنقّلت بين مصر وليبيا للتنسيق من أجل استحضار شحنات سفينة الأسلحة «لطف الله 2». قبلها حمل مسؤولية مخزن الأسلحة الذي انفجر أوائل شهر شباط الماضي في منطقة أبي سمراء. كذلك ورد اسمه في التسجيل المصوّر الذي عُرض أخيراً ويظهر فيه عناصر من الجيش السوري الحر يعدمون أحد عناصر تنظيم فتح الإسلام وليد البستاني، الذي فرّ من سجن رومية في لبنان منذ عدة أشهر ليظهر في الشريط المصوّر في صفوف الجماعات المسلّحة التي تقاتل ضد النظام في سوريا.
تنقسم المواقف حيال شخصية حمود المثيرة للجدل. ففيما يرى فيه المحيطين أقرب من «قائد ميداني يحمل مشروع نهضة السنّة»، يرى آخرون، من أمنيين خالطوه عن قرب، أنه «شرس الطباع محدود الأُفق، لولا عباءة «المستقبل» التي يختبئ خلفها، لكان أشبه برجال القاعدة في لبنان».
طوفان
من جهته كتب واصف عواضة عن الوضع الطربلسي "ليس غريباً أن ينفجر الوضع في طرابلس بين الفينة والفينة. لعل من الغريب ومن غير الطبيعي ان تشهد طرابلس فترات الاستقرار بين الفينة والفينة. فالعاصمة الشمالية الرابضة على برميل بارود منذ سنوات طويلة، لا تحتاج الى أكثر من عود ثقاب لإشعال المواد المتفجرة المنتشرة في معظم أحيائها، بعضها أمني، وأكثرها سياسي. والسؤال غير المحيِّر في هذا المجال «ما هو الرابط بين توقيف مطلوب من قبل جهاز الأمن العام، واشتعال جبهة باب التبانة - جبل محسن؟
وينهي عواضة مقالته قائلاً "أعان الله طرابلس وحمى أهلها وفقراءها!".
الطرابلسيون يحبون الحياة
أمّا غسان سعود فقد اشار الى أنّ طرابلس ليست قندهار: يحبون الحياة، وقال "أمل طرابلس الوحيد أهلها. هم وحدهم القادرون على إنقاذ مدينتهم مما تشهده. فلا التعويل على السياسيين يفيد، ولا على المؤسسات الأمنية أو رجال الدين. إما يجنبون أنفسهم وأبناءهم تكرار تجربة التوحيد، أو يوقعون مدينتهم في الفخ مجدداً".
ويقول "ينسى المسلحون في لحظة الجنون كل شيء. ينسون أبو عمر ودكانه. ينسون الصلاة. ينسون من يموتون جوعاً إن أقفلت دكاكينهم يومين متتاليين. ينسون «طلوع الضو». ينسون الصخب المديني وأصوات الباعة والزمامير. ينسون دموع أمهاتهم...
وينسى العالم في لحظة الجنون نفسها أن في المدينة غير المسلحين. ثمة منازل قندهارية في المدينة؟ نعم. لكن طرابلس ليست قندهار. لا يمكنها أن تكون قندهار. لم تقو الفتاوى سابقاً، ولا السلاح على تبليعها إمارة التوحيد. اسألوا المدينة عن حركة التوحيد تخبركم أن لا مال ولا فتاوى ولا علاقات اجتماعية ولا شتى الخدمات تتيح للتوحيد أن يحلموا بكرسي نيابي واحد هنا، من الكراسي الثمانية. وضعت حركة التوحيد بجناحها المسلح الحجر الأساس لبؤس طرابلس. لا علاقة للمدينة بصفات الجهل والتخلف والتعصب، التي يلصقها بها من لا يعرفون أقله موقعها الجغرافيّ. لم يزر هؤلاء شاطئ المدينة في نهاية الأسبوع ليتعرفوا إليها: لم يندسوا وسط العشرات في «شختورة» صغيرة ليزوروا إحدى الجزر، فيُغنّوا فوق المركب «أسمر يا اسمراني» بصوت نشاز واحد مع أشخاص لم يمض خمس دقائق على لقائهم بهم، وينتبهوا، فوق المركب، إلى انشغال العشيقة بعيني عشيقها عن «الزبل» المكدس تحت أظفار قدميه، ورائحته النتنة بعد يوم عمل. لم يشتر هؤلاء بخمسمئة ليرة عرنوساً ملحته مياه البحر. لم يدبكوا مع شباب «الإيفيس» في جزيرة الأرانب على «تي رشرش» بصيغتها الطرابلسية. لم ير هؤلاء صخب الأطفال يلعبون هناك، ولا ألوان الطائرات الورقية، ولا أكوام العشاق الموزعين على صخور نصفها تحت البحر والنصف الآخر فوقه. لم يلمح هؤلاء الطلاب يتجادلون في وجود الله ومبدأ الخلافة ومنطق الزعامة في المقاهي المحيطة بكليات الجامعة اللبنانية في القبة. لم يروا الناس الطيبين في حديقة الماشية أو يسمعوهم يتحدثون.
لا تشرق الشمس هنا إلا على صوت فيروز، ولا تغيب من دون أبو وديع. خيّروا المدينة بين أبو وديع وابن تيمية، واشهدوا لمن ستصوت. في طرابلس مسلحون نعم، لكن فيها أطفال يلعبون ومراهقون يسكرون وعشاق يتبادلون القبل وعمال يكدحون. فيها ناس يحبون الحياة بجنون، وإلا فما الذي يبقيهم أحياءً في مدينة لا زفت فيها ولا كهرباء، لا مدينة ألعاب ولا سيرك، لا بنية تحتية ولا بنية فوقية، لا مسرح ولا مشروع سياسياً أو تنموياً؟ فيها مئات المسلحين! نعم. لكن فيها أيضاً آلاف الآلاف يشتمون المسلحين ومن يرسلهم. فيها جوامع ومعاهد دينية ومصلون (ومن ليس في مدينته كذلك فليرمِ طرابلس بحجر)، وفيها علمانيون لا يجدون دولاً عظمى أو إقليمية تبقيهم على قيد الحياة. فيها مجتمع مدني يناضل ببلاهة، مضيّعاً حماسة الناشطين بتحركات ساذجة، لأن الدول الممولة لا يعنيها نشر الديموقراطية وثقافة حل النزاعات خارج الضاحية والجنوب. فيها أيضاً مقاهٍ ونوادٍ وصالونات لا تملّ قراءة الصحف والنقاش والانحياز إلى فكرة ضد أخرى. في طرابلس مجتمع بلا صوت، يخنقه الرصاص. فوق، في المدينة التي وسختها حكومات أبنائها وبشعتها أكثر مما فعلت حكومات الصيداويين، ثمة مجتمع يريد _ من كل قلبه _ أن يعيش، لكنه لا يجد للحياة سبيلاً. ورغم ذلك يضحك، يضحك في السرِّ أكثر بكثير مما ينقّ أمام الكاميرا.
ويضيف سعود في تحقيقه عن طرابلس "هو الإعلام يحب لحية داعي الإسلام الشهال ولسان محمد كبارة والشرر في عيني عمر بكري فستق، فلا يوضح للرأي العام أن أكثر هؤلاء شعبيةً يسير خلفه في الأيام الطبيعية عشرة شبان، ولا يُعرِّف الجمهور إلى الطرابلسيين الآخرين. إلى الإيمان بالعروبة في كل نفس يتنفسه الطبيب غسان غوشة. إلى عشرات المسنين الذين ما زالوا يحجون قبل الساعة الثامنة من كل صباح إلى منزل عبد المجيد الرافعي ليسمعوه صباح الياسمين التي يعشق سماعها. خيّروا المدينة بين عمر بكري فستق وعبد المجيد الرافعي، واكتشفوا لمن ستصوت. إلى طبيب كل أطفال المدينة جوزف الرشكيدي. إلى الصبايا الناشطات في البلدية وغيرها، باحثاتٍ عما يمكنهن فعله لتغيير واقع المدينة. إلى جان عبيد الذي اقترع 31973 من أبنائها لمصلحته، ضد سعد رفيق الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وعمر كرامي والمال الغربي والسعودي والقطري والاستخبارات المصرية والتركية والأردنية وربما... السورية. إلى شعب نجيب ميقاتي الذي لا يعرف، لأنه طرابلسي، أن يكون إلا وسطياً. إلى خوريها الماركسي. وإلى عشرات النماذج من خلدون الشريف. لا بفضل المال أو الإرث العائلي أو اللقب السياسي أو اللحية المباركة أو النجومية الخطابية برز الأخير إعلامياً، بل بفضل بساطته الطرابلسية ووضوحه وابتسامته وإصراره على القول مهما ساءت الأمور إن الأوضاع بألف خير.
ويض يجن المسلحون. يطلقون الرصاص على مدينتهم. يشوهون كل شيء. يضيقون الخناق أكثر فأكثر على مدينتهم. يدير المسلحون ظهورهم لمجتمعهم. أما السياسيون، فبعضهم مثل سعد الحريري أقلّ وعياً من المسلحين أنفسهم، فينعبون على «تويتر» بدل أن يزقزقوا. بعضهم مثل مصباح الأحدب يزايدون في المكان والزمان الخاطئين. والبعض مثل نجيب ميقاتي يثبتون أن لا شيء في العالم يمكن أن يحرك فيهم غريزة القيادة ليقودوا الرأي العام بدل التطبيل له والتزمير.
لا يعوّل في طرابلس اليوم وغداً إلا على الطرابلسيين، أولئك المسالمين البسطاء الأذكياء والمرحين. على الراقصين فوق المراكب، المتحاورين في شتى القضايا، الحاضنين للعشاق المتمسكين بصخورهم المختلطة. لا يعول في طرابلس اليوم وغداً إلا على الذين سجنوا في اليومين الماضيين في قلق منازلهم والخوف من المجهول، الذين عاشوا أو سمعوا عن التجارب المماثلة التي شهدتها المدينة سابقاً ولا يريدون أن يضيع الهناء من حياة أبنائهم كما حصل معهم، جراء جنون عشرات من أبناء المدينة يصدف أنهم مسلحون وراياتهم سوداء.
ساحة النور تبايع «أميرها»: إقطعوا الطرقات
وكتب محمد نزال في جريدة الأخبار عن أحداث طرابلس " وسط ساحة النور، أقيمت الصلاة جماعة، بعد فشل مفاوضات إطلاق سراح شادي المولوي، فأغلقت الطرقات. هكذا، نامت طرابلس، أمس، على وقع الرصاص والقلق... والمجهول".
يضيف الكاتب في تحقيقه "لم تمرّ ساعات قليلة على روايته عن جبل محسن، حتى جاء نبأ مقتله. بهاء داوود. الشاب العشريني له حكايته عن الأرض التي ولد وعاش فيها. عن المعاناة والقهر والمعارك التي لا تنتهي. «العريس» كان كثير الاهتمام بلباسه ومظهره. يوم أمس كان مقاتلاً. رحل برصاص «عبثي» ليس أكثر منه في لبنان. رصاصة في عنقه كانت كفيلة بإنهاء حياته، أثناء محاولته سحب رفيقه المصاب، رمزي بكير، الذي عاد ومات. رصاص القنص كان حاداً عند محور الملولة _ البقار. كل محاور جبل محسن ومحيطه كانت مشتعلة. شابان آخران قُتلا أيضاً، عند محور المنكوبين، هما خضر الجلخ ومحمود معروف.
المسؤول في الحزب العربي الديموقراطي، عبد اللطيف صالح، يكبح عواطفه أثناء الحديث: «دماء بهاء داوود على قميصي. لقد فارق الحياة وهو بين يدي. لا بأس، لقد اعتدنا الأمر، وها نحن نقاتل وندفع الفاتورة عن الدولة اللبنانية، التي ننتمي إليها بالاسم، والتي تتركنا في أحلك الظروف». صالح يتحدث عادة مع الإعلاميين بصفته مسؤولاً إعلامياً، لكنه يوم أمس كان مقاتلاً ميدانياً، منسقاً مباشراً مع «القائد» رفعت عيد. يقول صالح، وقد غص صوته، أنه ومن معه يقاتلون «بالنياية عن جميع أبناء الصف الوطني. هذه المرّة نقاتل تنظيم القاعدة فعلاً، بعدما توافدوا إلى منطقتنا من الداخل والخارج».
لم يكن سهلاً الوصول إلى قلب جبل محسن، أمس، على عكس سائر الأحياء من حوله. كان أشبه بجزيرة أحاط بها بحر من «الآخرين». ليس في الجبل مستشفى لمعالجة الجرحى، ولم يعد ممكناً نقل المصابين إلى زغرتا بعدما قطعت الطرقات: «لقد تحول جريحنا قتيلاً». قرب المستشفى الحكومي، لناحية القبة، ثكنة كبيرة للجيش. الجنود يكتفون بنصح المارة بعدم سلوك الطريق الموصل إلى محور المواجهة. هناك يقع محور «الريفا _ جبل محسن». الثانية ظهراً، الرصاص ينهمر على تلك البقعة، ثم تسمع صدى كم هائل من قذاف الـ«آر بي جي». يطلب أحد الشبّان أن نصعد إلى شرفة منزله لالتقاط صور المواجهات، لكن والدته ترفض ذلك. الأم تخاف أن يتحوّل منزلها إلى «هدف للعلويين... هؤلاء لديهم كاميرات قادرة على تصوير ما يحصل داخل المنازل». هكذا، لدى كل طرف أساطيره عن الطرف الآخر.
ثلاثة شوارع تفصل «الريفا» عن محور «البقار _ الملولة». عند طرف هذا المحور، وسط ساحة القبة، يستريح شبّان في مقهى فقير لا يقدم، حالياً، سوى القهوة. يسخر الشاب خضر مرعي، داخل المقهى، من المعارك «السخيفة» التي تحصل. «الفقر والحرمان موجودان هنا وهناك، فعلى ماذا القتال؟». ثمة صورة لسعد الحريري، قرب المقهى، مزقها الرصاص حتى صارت كـ«المنخل». عند الصورة تكون قد دخلت إلى «مشروع الحريري» السكني. الأبنية البيضاء اللون بالأصل، صار لونها مرقطاً بفعل ثقوب الرصاص. هناك كان القتال يدور من شارع إلى شارع، ومن مبنى إلى مبنى، وفي بعض الأحيان من شقة إلى شقة. مرّت ساعة لم يتوقف فيها إطلاق النار لحظة واحدة هناك.
محور التبانة، الأكثر شهرة، لم يكن أقل من سواه في ضراوة الاشتباكات. الجيش قطع الطريق عند الزاهرية. يمكن المارة «الزوربة» للوصول إلى مشارف التبانة، حيث شارع سوريا الذي يفصل بين الطرفين. لم يكن باستطاعة أحد عبور هذا الشارع، بفعل القنص، الذي كان سهلاً تمييز صوت رصاصه، والذي لم يكن يتوقف من الجهتين.
كان الجميع بانتظار الساعة الرابعة عصراً، تحديداً في ساحة النور؛ إذ قيل إن الطرقات ستقطع. يصرخ المعتصمون بـ«الغرباء» للمغادرة. وعند الوقت، أقيمت صلاة العصر وسط الساحة، بحضور عدد من الشخصيات الدينية، على رأسهم الشيخ سالم الرافعي. بعد الصلاة، بايع الحضور الرافعي «أميراً» للجماعة.
اللواء أشرف ريفي يطلّ على الساحة، لكن من صورة كبيرة علقت له على أحد الأبنية، مذيلة بعبارة «البلد حلوة برجالها». ومن جهة أخرى، كانت قد أطلت ملكة الجمال الإيطالية، تانيا زمبارو، على الحشود، من على محل لبيع الجواهر. الفنان نادر الأتات كان هو الآخر حاضراً هناك، على لوحة إعلانية طبعاً. هكذا، بدت ساحة النور، التي عجّت بالرايات الإسلامية السوداء، ساحة لتناقضات شتى. الرجال، الكثر، الذين كانوا يرتدون الزي الأفغاني، بعضهم يهتم بأمر الصلاة والهتاف بالتكبير، ويُشغَل الآخرون بالحديث عبر الأجهزة اللاسلكية... ولا بأس من بعض السباب غير المألوف على ألسن أصحاب هذا الزي. الحالة التي كانت في الساحة، أمس، تشي بأن التدين ليس بالضرورة عقيدة لدى الجميع؛ إذ بدا كحالة يلتحق بها الشبّان المتحمسون، ولو من دون خلفية دينية.
على وقع الرصاص، الذي كان يصل صوته خفيفاً إلى ساحة النور، دعا الشيخ الرافعي الحاضرين إلى الإبقاء على الطابع السلمي للاعتصام، لكن في المقابل، دعاهم إلى «انتزاع الأمن بالقوة إن أراد النظام اللبناني استدعاءنا إلى القضاء، بتهمة دعم أهلنا في الثورة السورية». ختم الرافعي كلمته معلناً فشل المفاوضات على إطلاق سراح شادي المولوي، موعزاً إلى المحتشدين قطع الطرقات. وهكذا حصل، قُطعت الطرقات وشلت الحركة في عاصمة الشمال. بينما توعد شقيق الموقوف بزيه العسكري الأسود بإغلاق الشمال كله، من طرابلس حتى عكار، في حال عدم الإفراج عن شقيقه.
شبكة أخبار جبل محسن الإلكترونية تورد مساءً أن «علي عيد يمهل المعتدين على جبل محسن ساعتين لإيقاف الاعتداء، وإلا فسوف يشتعل الشمال اللبناني من أقصاه إلى أقصاه». وقبل هذا الخبر، ذكر أن «الأسطورة» حيدر أبو زيد عاد إلى جبل محسن، وهذا الأخير مقاتل قديم «يعرفه الجميع منذ ثمانينيات القرن الماضي». يوم أمس كانت الأساطير كثيرة، في طرابلس، لكن القتل، وحده، كان أكثر الأشياء حقيقة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق