الأربعاء، 2 مايو 2012

كلمة عضو هيئة الرئاسة في حركة أمل د. خليل حمدان حول مؤتمر وادي الحجير


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشـرف الخلـق وأعـز المرسلين سيدنـا ونبينـا محمـد وعلى  آلـه الطيبين الطاهرين .

    بين الذكرى والأثر مساحـة لانعاش الذاكرة على وقع التحديات التي تواجـه أمتنا والتي بلغت ذروتها في هذا الزمن الصعب، حيث تبرز تقاسيمه  وتظهر ملامحه بإقصاء العدو الصهيوني عن المواجهة بمحاولة خلق أعداء جدد بغية إلهائنا عن المعركة الحقيقية تجاه المقدسات تحت وطأة خطط تنفذ بدعم دولي وتعزيز مالي،وتسخّر فضائيات وصحفاً صفراء كأن المشكلة لم تعد في احتلال فلسطين بل الممانعة والمقاومة من ايران الى سوريـا ولبنان وغزة وكل المواقع التي تلتزم الصراع على أن فلسطين هي المكـون الجمعي للعرب والمسلمين والمسيحيين  وكل الأحرار في العالم . 



   وعلى سبيل انعاش الذاكرة وإسهاماً بتحرير الوعي في مواجهة محو الذاكرة يكتسب لقاؤنـا هذا أهمية خاصة واستثنائية ، وبدعوة كريمـة من جمعية الامام الصادق لاحياء التراث العلمائي لتقديم بحث من الامام السيد عبد الحسين شرف الدين الى الامـام السيد موسى الصدر وحدة المنطلقات والأهداف والمكان وادي الحجير ، وهنا انتابني شعور بأن تنكبت مهمـة البحث لاعتبارات عديدة :

- أولاً : دلالة المكان والزمان وحسبك مؤتمر وادي الحجير .

- ثانياً : الحديث عن علمين كبيرين ذاع صيتهمـا وعلا صوتهما ملء السمع حكايتهما جابا البلاد طولاً وعرضاً وشدت اليهما رحال الباحثين والاعلاميين والمحققين من كل حدب وصوب حتى باتا على كل شفة ولسان في المدائن والعواصم، في المؤتمرات والمنتديات،وفي محضر الرؤساء والعلماء .

- ثالثاً : استحضار اللحظات التاريخيـة لحركـة الجهاد والعطاء وهذا مـا قـد يستفز بعض المؤسسين لتاريخ افتراضي لهذا الوطن العزيز لبنان . 

-  رابعاً : الحديث عن المنطلقات بوحدتها والأهداف بسموها عصي على الاختزال والاختصار فهل أصيب لعله مع الخواطىء سهم صائب . 

ولكن أليس تعداد مزايا المرء منقصة له

إن فاقت مزايـاه على التعـداد (1)

أو كما قال الشاعر :

ولأنت  أروع  أن  تكـون مجـرداً

 فلقـد يضـر برائـع تثميـن (2)



 سأدعهما في سنبلهما وأحاول كلاماً ما لا يدرك كله، لا يترك جلة بعض اللحظات أكبر من زمانها، وبعض الكلمات أوسع من قاموسها، وبعض الرجال يتعدون العدد فيقال أمـة في رجل ألا تظنون أني تنكبت البحث في هذين الكبيرين اللذين شرعا أقلامهما وجهادهمـا على درب النبيين وشهرا مواقفهما اسوة بالحسين .



   ووادي الحجير علامة فارقة في تاريخ الوطن والأمة ، جغرافياً يتوسط البلاد العاملية (3) وهو حصين بجباله وهضابه (4) وكل ما فيه يدل على أنـه ممانع ومنيع يستعصى على الأعداء ، وهو المكان الذي عقد فيه المؤتمرالزمان صباح يوم السبت الخامس من شعبان 1338 الموافق الرابع والعشرين من شهر نيسان 1920 بعد ان اتفق السيد عبد الحسين شرف الدين مع الزعيم كامل الأسعد ، على عقد مؤتمر عام يضم علماء البلاد وزعماءها وأدباءها وأهل الرأي فيها وثوارها (5) وجاء ذلك في إطار عملية التواصل بين قادة جبل عامل والقيادة في سوريا في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد حيث أمنت فرنسا توليفـة الفتنة واستجمعت عناصرها بتسليح فئة وتحريض فئـة على أخرى (6) وانقسم سكان جبل عامل والأقضيـة بين مؤيد ومعارض لسياسات فرنسا الرامية لسلخ لبنان عن سوريا وكان لا بـد من الموقف التاريخي ، اجتمع العامليون علماء سياسيون مفكرون ثـوار ومهتمـون وعلى رأسهم الامام شرف الدين وقد حدد في خطابه الظروف المحيطة والمهمات المقبلة " اخوتي اعلام الأمة ، اننا اليوم في هذا المفترق الخطير أشد حاجة من أي وقت الى الاعتصام بحبلهم " أهل البيت" والسير على نهجهم فإما ثمرة لا تقضم أو ذلة لا ترحم أو هوان تهدر في حمأته انسانية الانسان ... إمـا استقلال دون وصاية أو استعباد نكون معه كالأيتام على مأدبة اللئام .... 

  

   أيها الفرسان إن لهذا المؤتمر مـا بعـده وسيطبق نبوءة الآفاق السورية ويتجاوب صداه في الأقطار العربية ويتجاوزها الى عصبة الأمم وقـد امتدت به اليكم الأعناق وشخصت الأبصار فإنظروا اليوم مـا أنتم فاعلـون ألا وان جبل عامل بعد هذا المؤتمر بين أمرين عـز لا تنفصم عروته ، ولا تقرع مرته أو ذل تهاوت معه كواكب السعد وتقوض به سرادق المجد (7) . 

   وكان من أبرز مقررات المؤتمر : 

1.   طلب الانضمام للوحدة السورية .  

2.   المناداة بفيصل ملكاً على سوريا . 

3.   الرفض المطلق لكل ما تدعيه فرنسا من أطماع في المنطقة . 

4. لزوم الطاعـة والابتعاد عن الشرور والمحافظـة على أموال وأملاك المواطنين المسيحيين وأرواحهم ودفع الأذى عنهم . (8)



وانتخب المؤتمر السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين لنقل مطالب المؤتمر الى الملك فيصل على أن ينضم اليهما في دمشق العلامة الكبير السيد محسن الأمين (9)  وبالفعل توجه السيدان الى دمشق ولكن الفرنسيين استكملوا فتنتهم بإشاعة أن السيد أفتى بمحاربة النصارى وردد هذا الأمـر الأديب أمين الريحاني مدعياً أن السيد استخار بالسبحة على ذبح النصارى (10) مما أدى الى تطور الأمر بسرعة وأحرق الفرنسيون منزل السيد في صور ، ودارته في شحور ، وأصدروا أمراً بإعدامـه وإلقاء القبض عليه حياً أو ميتاً لمنعه من الوصول الى دمشق ولكنهم فشلوا ونجحوا في إذكاء الفتن الطائفية (11)



   في ذلك الزمن  أعلن العامليون تمسكهم بالوحدة والتأكيد على العيش المشترك وأظهر المستعمر الفرنسي اصراره على سياسة التفرقة والتبديد على حساب أعدائـه وأصدقائه في آن ، ولكـن حفـر المؤتمـرون على ذاكـرة الزمـن تغليب العام على الخاص وأنهم وحدويون يعترفون بالآخر ويقدرون حرية المعتقد والفكر، نقول هذا هو التاريخ الحقيقي الذي ينبغي أن يشق دربه عبر الزمن لصياغة غد واعد لأن التاريخ الذي كتب منـذ مطلع القرن العشرين على أساس بناء تاريخ افتراضي للدولة اللبنانية الناشئة إذ تم فيها تغييب تاريخ جبل عامل المكلل بالجهاد والعطاء والفداء واستحضر تاريخ جزء من لبنان وهو تاريخ لمنطقة ولطائفة  وقد سمي (تاريخاً وطنياً) واخترق هذا التاريخ وعي الأجيال واحتل جزءاً من الذاكرة ولو بشكل مزور وقسري ، هذا التاريخ هو تاريخ جبل أو تاريخ طائفة سموه بتاريخ الوطن ونشأ جيل من الكتاب المقلدين والمكررين لمقولات حفظوها أو تأثروا بها رضوخاً لحالة الاستقواء الفكري والاقتصادي والسياسي . 



   إذاً ينتقل هذا التاريخ عندهم  ليتوسع من حيث الحدث والشخصية والدور في الفترة العثمانية وذلك من خلال ابراز ما سمي في هذا التاريخ بالإمارة اللبنانيـة التي تقتصر على الامارتين المعنية والشهابية ، إذ تلغى الامارات الأخرى في المناطق وتشطب تواريخها وتختزل لمصلحة هاتين الأسرتين وحال المتصرفية لم يكن أفضل على الاطلاق ، هذه النواة تحمل ايضاً مضموناً  سوسيولوجياً سياسياً، الأمر الذي أعطى التركيب الجغرافي السياسي للبنان الكبير طابع العلاقة بين المركز والأطراف، بين النواة والملحقات، ومن المهم توضيح أن ادراج جبل عامل في نطاق التخصيص هنا لا يستطيع إدراجه بالضرورة في منطق التواريخ الطائفية اللبنانية بل على العكس إن ادراجه كحالة مخصصة ينبع من عدة اعتبارات تاريخية وثقافية وسياسية وحدوية (12) بعيداً عن الصياغة التي تعود في بلورتها وإخراجها لنظرية تاريخية الى الأب لامنس اقتبسها منه العديد من المؤرخين الموارنة اللاحقين وعلى رأسهم جواد بولس.



   يقـول جواد بولس سنة 1600 كان فخر الدين قـد حقق القسم الأول من مخططه الطموح القاضي بإعادة بناء الوحدة الجغرافية والسياسية لفينيقيا القديمة والمجزأة منذ أجيال عديدة وكانت امارته تمثل العالم الأول للبنان الكبير عام 1920 ولبنان الحاضر (13)

  

    أما هذا المشهد يكتسب البحث في تاريخ الأطراف أهمية بالغة فكيف إذا كان تاريخ جبل عامل أحد مرتكزات الموقف الوحدوي التي تجلى بمؤتمر وادي الحجير الذي كان فيه الامام شرف الدين قطب الرحى . (14)





   ويمكن أن نتبين ذلك من خلال وقفاته الثوريـة داخل المؤتمر نفسه حيث قال في كتابه صفحات من حياتي " في اليوم الموعود كان وادي الحجير يستقبل ضيوفـه من صفوة علماء جبل عامل وأسوده ووجهائه وأعيانه وكان يضيق بالرايات ويدوي بالهتافات وكأنما عامله بعثت من جديد " (15)



   وقد أعطى هذا المؤتمر التغطية الأهليـة والسياسية والدينيـة للثورة  المسلحة في وجه المستعمر الفرنسي وبقيادة أدهم خنجر وصادق حمزة ومحمود الأحمد وسواهم وكأن التاريخ ضنين بالخلف الذين أدوا الأمانة وأعطوا حتى الدم من شهداء أفواج المقاومة اللبنانية أمل الى شهداء المقاومة الاسلامية الذين جعلوا من هذا الوادي وادي الحجير مقبرة للغزاة المحتلين الصهاينة، مما أربك العدو ووضع حداً لغروره الذي دفعه للاعلان في لحظة التخلي العربي والرسمي عن الجنوب وعن فلسطين، ليعلن أحد القادة الصهاينة أنه بفرقة موسيقية بإمكانه احتلال لبنان ، ولكن آلياته التي أدهشت العالم بإمكاناتها الحربية وسرعة اندفاعها ومع دعم جوي أخفق هذا العدو على التقدم لأمتار قليلة بل اندحر يجرجر أذيال الهزيمـة من قبل ومن بعد  2006 وبطولات المقاومـة الاسلامية وأفواج المقاومة اللبنانية أمل على درب الامام موسى الصدر في هذا الوادي تضحيات جسام وشهداء ، أعرف منهم  الشهيد الحي فادي عليان والشهداء عباس حمود ومحمد زعرور ومحمد عبد النبي وأحمد وهبي وعلي نعمة ومحمد قبيسي  ووسام مونس ومحمـد زويتـا ، طارق المقداد وأحمـد قيس ، محمد حطيط وحسين قاسم وعلى طريق وادي الحجير عبرت قوافل شهداء ومجاهدين لتكون طريق مصطفى شمران الى الطيبة ورب ثلاثين والقنطرة ، والشهيد يوسف حجازي عام 1977 وهي مناسبة  لتقديم آيات الشكر والعرفان لكل المجاهدين ومن جميع الأحزاب والمنظمات والهيئات والقوافـل التي غيرت ورسمت ملامح تاريخ وادي الحجير المشرق العاملي بامتياز وهي مرحلة بالغة الدقـة والصعوبة وزاخرة بالعلم والشهادة من الامام السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره الى الامام السيد موسى الصدر .





·       الامام شرف الدين والامام الصدر علاقة النسب والسبب :



   تعود جذور العائلتين الكريمتين الى شرف الدين والصدر نفسها للشجرة المباركة ، ويقدم الامام الصدر نفسه كما جاء على لسانه في مجلـة العرفان " أنا أنتمي الى عائلة جذورها موجودة في لبنان أنا متحدر من سلالة الامام موسى بن جعفر الامام السابع من أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام ، أجدادي تركوا لبنان عندما وصل الاضطهاد التركي الى ذروته وتم احراق كتبنا وقتل علمائنا ، لقد غادر أجدادي الى العراق وايران وحيث أسسوا عائلة كبيرة . (16)

   فالامام السيد موسى الصدر هو ابن السيد صدر الدين  ابن السيد اسماعيـل ابن السيد صدر الدين ابن السيد صالح شرف الدين .

   ولد الامام الصدر في 4 حزيران عام 1928 في مدينة قم المقدسة  حيث ترعرع في ظل بيئة علمية مميزة ، ويقول الامام الصدر أنا ولدت في ايران حيث والدي صدر الدين الصدر  عاش وأسس جامعة دينية (17) في قم درست في البداية في تلك الجامعة (18) بعدها نلت شهادة جامعية (19) في الاقتصاد من جامعة طهران . 

   ويضيف الامام أكملت دراستي الدينية في النجف الأشرف في العراق حيث سافر الامام الى النجف الأشرف لمتابعة تحصيل العلوم الفقهية العليا على كبار المراجع في الحوزة العلمية شارك في جمعية منتدى البشر وكان من اهتماماتها عقد الندوات الثقافية ونشرهـا كما كان الامام عضواً في هيئتها الإدارية (20) وذلك ابتداءً من عام 1954. 

   عام 1958 عاد الى حوزة قم العلمية وشارك مع آخرين منهم آيات الله بهشتي وآذري قمـي ومكارم شيرازي في  تدويـن مشروع اصلاح المناهج (21) العلميـة في الحـوزة 1958- 1959

   بعد وفاة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين قدم الامام الصدر الى لبنان  بعد زيارتين 1955- 1957 وذلك بتشجيع ومباركة من المرجع الأكبر السيد البروجردي (22) وعدد من المراجع العظام .



* الامام السيد عبد الحسين شرف الدين : 

   هو السيد عبد الحسن بن يوسف بن جواد بن اسماعيل بن محمد بن ابراهيم شرف الدين، ولد في الكاظمية في العراق سنة 1873 ميلادية 290 هجرية ، تتلمذ على يد والده السيد يوسف وجده السيد هادي الصدر في المقدمات . 

   قال الامام شرف الدين قدس سره  " لم أزل في النجف الأشرف ضارباً بتوفيق الله تعالى على الاشتغال ملقياً أجراني على أخذ العلم من أفواه العلماءالرجال طاويـاً الفؤاد على الافادة والاستفادة قائماً  فيها على ساق، محاضراً ومناظراً ومدرساً ومؤلفـاً لا ألوي على شيء حتى قفلت راجعاً  بنجح حاجاتي الى عاملة منقلباً اليها أجمل منقلب أغنيت مدة اقامتي في العراق بما هاجرت اليه حتى أني لم أتصل بغير أهل العلم  ولم أتعرف بأحد سواهم من سائر أهل العراق بل لم أر من حواضرها وبواديها غير المشاهد الأربعة والكوفة وبغداد" (23)



·       من النجف الأشرف الى جبل عامل : 

       عام 1905 عـاد الامام شرف الدين متجلببـاً ببردة الاجتهـاد المطلق يقتحم عباب الأزمات السياسية المتلاحقة التي عصفت بالأمة والمنطقة والتي تتردد سلبياتها حتى اليوم، خاصة نشأة الكيان الصهيوني أو الغدة السرطانية بتعبير الامام الخميني أو الشر المطلق بتعبير الامام المغيب السيد موسى الصدر .

   محطة العودة الأولى كانت في دمشق حيث استقبله المقدس السيد محسن الأمين  وثلة من العلماء ، أما في جبل عامل وعند وصوله الى بلدة عديسة وجد في استقباله أعلام البلاد (24) ويقول الامام تابعنا السير فكنا نلتقي بالناس أفواجاً أفواجاً  مشاة وركبانا حتى أتينا قريتنا شحور (25) . 

   وما ينتظر الامام ليس بالأمر اليسير ولكنه وطد نفسه على دخول المعترك وحمل هموم الناس حيث لا يكتفي علامتنا برسم تلك اللوحة بل أوضح الأمر على المستوى الخاص قائلاً : " ارادني ولي النعمة أن أتصدى للأمور الحسبية وأنا في خدمته " مشيراً الى والده وسائر الشؤون العامة … وعلى هذا جرى الأمر بيننا والحمدلله (26) . 

   كانت تجربة الامام شرف الدين قاسية وصعبة ومضنية لأنه عبرها في أصعب مراحل التآمر على الأمة حياة حافلة بالمواقف عاشها سماحته وتحديات كبيرة ضاق بها صدره لشدة ما تحمل من عدوان الأعداء وتجني من عمل لأجلهم وتآمر المرتزقة حتى أنه فكر في العام 1944 في الهجرة الى العراق والاقامـة في النجف الأشرف (27) … اجتمع علماء جبل عامل ليثنوه عن ذلك  وكانت مداولات ونقاشات أدت الى العزوف عن الهجرة وآثر البقاء في عاملة التي أحبها طيلة عمره الشريف الى أن وافته المنية . 

   توفي الامام عن مواقف مشرفة، وسيرة حافلـة بالعطاء يلفها القلق على المصير وسط نكبات متتالية واهتزازات مرعبة ومميتة آخرها نكبة فلسطين ، خاطب الملوك  والأمراء والرؤساء وهو يقول : " وليس ذهاب فلسطين فاجعاً لولا أنه ذهاب لريح العرب وعز المسلمين وكرامة الانسان المستشرق في غد هذا الشرق القريب " .

ويوجه نداء للمسلمين والعرب في اول محرم 1367 يؤكـد فيها على أهميـة وقدسية النضال دفاعاً عن فلسطين ليقول : " هذا شهر محرم الدامي الذي انتصرت فيـه عقيدة وبعث منه مبدأ … ألا وأن قتلة الحسين بكر في القتلات فلتكن قدوتنـا به بكراً في القدوات ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من حياة ومجد وخلود " (28)

   وكان الامام شرف الدين يعتقد أن تحصين المجتمع بتأمين مقومات النهوض جزء من عملية مواجهة التخلف والعدوان اضافـة الى مواقفه الحاسمـة تجاه الأعداء قام بإنشاء ورعاية العديد من المؤسسات وحسبنا أن نعرض ما قام به (29) : 

1.   الحسينية في الحي المعروف الآن باسمها . 

2. مشروع مسجد أقام أسسه ووقفت الحكومة الفرنسية دون إتمامـه ، ركائز هذا المسجد تحت الرمول للجهة الشرقية من عقار الثانوية الجعفرية بين الجعفريـة والمبنى الذي تشغله التكميلية الرسمية . 

3.   المسجد القائم الآن في البلدة في المنطقة المعروفة بالساحة .

4.   ستة مخازن ، ومنزل فوقها حيث الاعداديـة الجعفريـة المجانية الآن ونادي الامام الصادق .



5.   المدرسة الجعفرية ومن ثم الثانوية الجعفرية . 

6.   نادي الامام الصادق . 

7.   مسجد الجعفرية تحت الاعدادية الجعفرية . 

8.   مدرسة الزهراء للبنات .

9.   الاعدادية الجعفرية للصبيان . 

10.        الإعدادية الجعفرية للبنات . 

11.        جمعية نشر العلم .

12.        الجمعية الخيرية الجعفرية .

13.        جمعية البر والاحسان .

14.   مشروع مدرسة دينيـة ومدرسة مهنية ، أقام أساسهما في الزاوية الجنوبية الغربية  من عقار الجعفرية ، حيث تقوم الآن محلات السيد علي بحسون للتجارة ، ولم يستمر العمل لظروف سياسية ومادية . 

15.   ساهم في إقامة جميع المساجد والحسينيات التي أقيمت على عهده في منطقتي صور وبنت جبيل . 

16.        تشكيل لجان لصرف الحقوق الشرعية بإشراف مخرج الحقوق أو من ينوب عنه .

17.        تدريب بعض الفتيان على القيام بمهمات المنبر الحسيني على طريقة استحدثها .



    أما الأمور المطلبية وإزالة الحرمان تفوق على حشدها في بحث معد لندوة فإن تسليط الضوء على بعضها يعطي المتابع اصرار الدولة على الاهمال وممارسة سياسة القهر المتعمد على المواطنين المصنفين من درجة ثانية  وثالثة .

   الرسالة الأولى الى رئيس الجمهورية حبيب باشا السعد عام 1347 هـ .

   الرسالة الثانيـة من رسالـة الى الرئيس بشارة الخوري اثر اعتداء الصهاينـة على الجنوب عام 1948.

   والثالثة من كتاب الى الرئيس بشارة الخوري اثر تجريد حملة عسكريـة على عشائر الهرمل . (30)

وهذا هو النص لأهميته :

1. من كتاب الى رئيس الجمهورية حبيب باشا السعد بتاريخ 3 جمادى الأولى 1347هـ : 

   ... ولبنان تربـة خصبـة يزدهر فيها الزرع ، ويدر في ربوعها الضرع ، فتعهد هذه الأرض الطيبة تؤتي أكلها بإذن ربها . 

   أما الجنوب ، و(عاملة) قسمه الأوفى ، فإن مرابعه يباب ، وماءه محض سراب ، لم تمتد اليه يد ببناء ، ولم تلح له قط بارقـة رجاء ، ولعل يدك الكريمة تسرع اليه بما أبطأ عنه ، وتعود عليه بما حرم منه .     



2. من كتاب الى الرئيس بشارة الخوري اثر اعتداء الصهاينة على الجنوب عام 1948م  : 

   ... وحسبنا الآن نكبة جبل عامل في حدوده المتاحة ، ودمائـه المباحة ، وقراه وقد صيح فيها نهباً ، وأطفاله وقد تأودت رعباً ، وقد استحر به الفتك ، الى مـا هنالك من هلاك الحرث والزرع .

   هذا الجبل المرابط ، يدفع جزية الدم لشذاذ الآفاق، من كل من لفظتـه الأرجاء ونبذته الأرض والسماء .

   هذا الجبل العريق ، تضرب عليه الذلة والمسكنة ، ممن ضربت عليهم الذلة والمسكنة في التاريخ . 

   هذا الجبل الذي يقوم بما عليه من واجبات ولا يعطي ما له من حقوق ، كأنه الشريك الخاسر ، يدفع الغرم ، ومن الغنم يحرم .

   فإذا لم يكن من قدرة على الحمايـة ، أفليس من طاقة على الرعايـة ؟  وإذا لم تؤد الحقوق ،  فلماذا يستمر العقوق ؟ 

   وإذا قرأتم السلام على جبل عامل ، فقل السلام عليك وعلى لبنان . 



3. من كتاب الى رئيس بشارة الخوري أيضاً اثر تجريـد حملـة عسكرية على عشائر الهرمل أيلول 1949  : 

   ... فإن عشائر الهرمل ، لم يخرجوا على طاعة ولا فارقوا الجماعة ، فلمن تسرج الخيل العراب ، وتشرع الأسنة الحراب . 

   ألهؤلاء .. وهم أبـاة ضيم لا يبيتون على خسف ولا يقيمون على هوان ، في عصر تفتحت على نوره العقول والأبصار، واغترف منه لبنان حتى غدا قبلة الأنظار ، دون أن يصيبهم صيب من ديمتـه ، أو فاضل من نعمته ، بـل تركوا للتخلف يحبس عليهم في مكانهم يتآكلهم الثأر ، ويغتالهم الجهل والمرض والفقر ، حتى أصبحوا بين نارين ، نار الحكومة الموقدة ، ونار أوضاعهم الموصدة . 

   وإن أخشى ما أخشاه ، أن تدخل النائحة الى كل بيت في لبنان ، إذا التقى الجمعان والتحم الصفان ، فالحملة العسكرية لا يستهان بها عدة وعدداً ، والمعتصمون في الجرود لهم من المواقع ما يسلطهم على الوقائع ، والدم ينادي الدم . 

   إلا أعدتم النظر يا صاحب الفخامة ، في اسلوب تأديب الجامحين وغزو المتمردين ألا ترون أن تغزوهم بجيش من التسامح تريشون بـه جناح الوطن المهيض وتشفون جنبه المريض ؟ 

   ألا ترون أن إعمار المدارس والمستشفيات يغني عن إعمار السجون والقبور ؟ وشق الشوارع والطرقات يغني عن شق الجيوب والصدور ؟ 



* الامام السيد موسى الصدر يخلف الامام شرف الدين : 

  

   حدث ذات يوم أنه عندما كنا في بهـو منزل السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1957 دخل شاب سيد طويل القامـة بطلته البهية سلم على الحاضرين وقبل الامام شرف الدين وسلمه أوراقاً كان يحملها وعرف به الامام شرف الدين بأنه السيد موسى الصدر قريبنا من قم  ثم دعـاه للدخول الى الداخل وبعد حوالي نصف ساعة خرجا ونادى الامام ابن ابني جعفر فأرسلوا أحدهم ليحضر الى الامام وعندما وصل قال إن مت فهذا السيد هـو من سيحل مكاني ، هذا ما قاله الشيخ حسن بيضون في إحدى اللقاءات وهو مقرىء القرآن المعروف في نادي الامام الصادق ورفيق درب الامام ومن لازم السيد عبد الحسين شرف الدين شاع الخبر في صور واعترض من اعترض، واجتمع على السيد من احتج حتى وصل اصداء ذلك للامام شرف الدين بأن المعترضين يقولون ان المنطقة فيها الكثير من أهل العلم والفضل وماذا يعرف السيد موسى الصدر الآتي من قم عن صور عن جبل عامل عن لبنان عن مشاكلنا عن أزماتنا ، فأجاب الامام شرف الدين أرأيتم الأوراق التي سلمني ايـاه فيها دراسات عن أوضاعنا واقتراحات لحلول المشاكل عندنا وهو يعرف أكثر بكثير مما يعرفه البعض (31) .



   وتوفي الرجل الامام وترجل الفارس ، ترجل الفارس بعد سبعة وثمانين عاماً حملته على صهوة العلم والعمل والتقـوى منبراً يوقظ النائمين ويهتف بالمستضعفين ويتردد صدى صوته في موطن العرب والمسلمين ، ترجل وكانت أذني قد وعت الجملة الأخيرة حسب ابنه السيد جعفر شرف الدين (32)

   الكلمة الأخيرة التي رددها " لقد بلغت الغاية  ولا يبلغ الغاية إلا الحي "  قالها ثلاث وصمت واستراح من هم الدنيا وغمها . 



   هناك الكثير من العلماء والعامة السياسيين والتجار لم يعرفوا سر الوصية وبات الناس في حيرة من الذي سيخلف الامام شرف الدين ويجسد هذا ما كتبه سماحـة الشيخ محمد جواد مغنية في مجلـة العرفـان منتصف عام 1958 تحت عنـوان مـن هو خليفة شرف الدين (33)

*  من هو خليفة شرف الدين ؟ 

   أتى على المقدس شرف الدين حيناً من الدهر وهو من رؤساء العلماء في جبل عامل ، ثم أصبح بعد وفاة زملائه الكبار عليه، وعليهم الرحمة والرضوان ، الرئيس الأول وحده لا شريك له ، أما اليوم وبعد أن لبى هذا الجليل نداء ربه فيرى البعض أنه " الخليفة " دون غيره ، وآخر أنه أحد أطراف الشبهة المحصورة ، وثالث أنه الفرد المردد بين تعيينه بالذات والتخيير بينه وبين غيره .



  وطريقة الامامية في اختيار الشخص لهذا المنصب الخطير تخالف ما عليه سائر الطوائف فهو لا يعين بمرسوم من مصدر رسمي ، ولا بالانتخـاب من فئة معينة ، أما المراسيم فهي عندهم من اختصاص المعصوم الذي لا يجترح السيئات ، ولا يتأثـر بالشفاعات ، لذا يتركـون الانتخاب الى الطبيعـة ، الى مؤهلات الشخص وصفاتـه واحساس الناس وشعورهم ودائماً يأتي هذا الاحساس العام ، وكأنه وحي من السماء إذ لم يعرف في عهد من العهود ، كما أعلم أن كلمة الطائفة بجميع أفرادها وهيئاتها اتفقت على ضلالة ، وبدون سبب مشروع .



   ان الفرد مهما ملك من الأساليب فلا يستطيع أن يخدع شعباً بأكمله أو طائفة بأسرها باسم الدين أو الوطنية . 



   ومرة ثانية أقول : ان الشيعة يتركون التصفية والغربلة للأيام ، فهي وحدها الكفيلة باختيار الأصلح والأصدق والأنفع . 



   أجل اننا نفكر ونقدر ونرشح هذا دون ذاك ، ولكن على سبيل التنبؤ لا الاختيار والتخمين لا التعيين ، لقد قـاوم شرف الدين من قاومـه ، وأبى أن يعترف بمكانته ومنزلته ، بادىء ذي بدء ، ولكنه استسلم في النهاية لقوة الحق وخضع لمنطق الواقع الذي لا معدى عنه " فأما  الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" هذا ما كتبه سماحة العلامة الشيخ محمد جواد مغنية رحمة الله عليه .



   وبالفعل إن الشيعة يتركون التصفيـة والغربلة للأيام فهي الكفيلة وحدها باختيار الأصلح والأصدق والأنفع وكان الخيار الأصلح والأصدق الامام السيد موسى الصدر حضر الى لبنان اواخر عام 1959تنفيداً لوصية الامام شرف الدين وتأييداً من كبار مراجع الطائفة وعلمائها . 



* صورة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين في ذهن الامام موسى الصدر وبقلمه (34)      

   سيدي ، عرفك بيتك أباً عطوفاً وارف الظلال ، مضيافاً يخدم الضيف الذي يحج اليه رجالاً وركباناً وعلى كل ضامر يأتيه من كل فج عميق .

 

   وعرفك صحبك : مرشداً مربياً لا ينقطع عن النصيحة والتوجيه لحظة واحدة .



  وعرفك بلدك : مصلحاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، يقيم الشعائر وينصر المظلوم ويحكم بين الناس بالقسط .



   وعرفك وطنك : قائداً ثائراً يبذل أقصى مـا يمكن بذله ، ولا يثنيه جبروت المستعمر ولا حيلة العدو الماكر ولا ايلام الحرب الباردة التي يشنها الخصم الداخلي . 



   وعرفك العالم : شمساً تنير الأفق المدلهم الواسع ، فتبعث من خلال رسائلك وكتبك الى مختلف الأقطار ، حديث الحق وقصة الحياة المثالية . 



   وعرفك التاريخ : صفحـة بيضاء لا زيغ فيها ولا خريف ، بـل مطلع فصل يأبى المغالطة ، ومدخل كتاب فيه تبيان وفرقان ، بين الحقيقة والوهم .



   سيدي ، حولت فكرك الى كتبك الخالدة فأهديتها الينا . 



   وحولت طاقتك الى مؤسساتك العظيمة ، فوهبتنا إياها .



   وحولت عواطفك الرقيقـة ، فأصلحت ما فسد من أمرنا ، وجبرت مـا انكسر في مجتمعنا .       



   وحولت خلقك الكريم الى تنشيط الحق وتعميم الجمال ، وتهدئـة القلوب ، وتسلية المحزون وراحة اللاجىء والاصلاح بين الناس . 



   حولت وجودك كلـه الى كمال مجتمعنـا ، وأهديت كل ما تملك الينا ، ثم حملت جسدك المرهق المتهدم ، حملته الى منبت علمك ، الى باب مدينة العلم ، الى بلد النور والولاء ، الى النجف ، لكي تجذب قلوبنا وتحافظ على رباط ايماننـا وتمسكنا بسفينـة النجاة وأحد الثقلين . 



   ذهبت بعدما أعطيتنا كل شيء سمواً في الحياة وفي الممات ،  لكي تضرب مثلاً آخر بموتك بعدما ضربت الأمثال للناس بحياتك .   

 

  



          

   أجل، وفي تشرين الأول سنة 1959 لبى الامام موسى الصدر الدعوة وقدم الى لبنان وأقام في مدينة صور، وبدأ مهامه  إماماً في المسجد الذي بناه السيد عبد الحسين شرف الدين وهو المسجـد المعروف بمسجـد الإمام الصادق (ع) ، ولكن الامام لم يبق أسير جدرانه بل تخطى الحدود ، بل كان كما توقع  الشيخ مرتضى آل ياسين (35) الذي قال في الصدر في رسالة بعث بها الى نجل الامام السيد عبد الحسين شرف الدين السيد جعفر، يتحدث فيها عن مزايا الامام الصدر وتوقعاتـه لمستقبل العمل على يديه في العالم أجمع ، وهذا نصها :



"  فقد علمت منذ أمد قريب بأن فضيلة السيد السند والثقة المعتمد العلامة الجليل حجة الإسلام السيد موسى الصدر آية الله قد استجاب أخيراً لدعوتكم الملحـة بالهجرة الى صور فهاجـر اليها فعلاً وحل بها أهلاً ووطـأ منها سهلاً ، ذلك ليملأ فيها هذا الفراغ الشاغر الذي ظل طوال هذه الفترة الكئيبة يتطلع الى ذلك الرجل المثالي الجدير بتمثيل رجل الدين في علمه وعمله وفي هديه ووعيـه الى أن منّ الله عليه بهذه الشخصية المثالية المزدانة بكل عناصر الخير والمجهزة بكل طاقات العمل في سبيل النفع العام .





   فبورك لصور ومن فيها بهذه التحفة الثمينة التي تفضل الله بها عليها وإني لواثق بأن هذا النور الذي سطع في سماء صور سوف لا يقف عند حدودها كما يقف نور المصباح عند حد من الحدود بل انـه ولا شك سيتجاوزهـا ويتعداها حتى يعم العالم الاسلامي بأسره وما ذلك عن لطفه تعالى ببعيد " .



* رؤيـة الامام للوضع الداخلي : 



   وبوصول الامام الصدر الى لبنان فاكتشف وضعية الانسان بعد تعرفه عن قرب على مشاكل الأفراد والجماعات والتفت الى عمق الهوة واتساع الفجوة  بين أبناء الوطن الواحد التي تتعاطى معهم الدولة على أسس متعددة ورعاية متنوعة، وكانت الأصالة في المواطنية تظهر في منطقة ، أو تغيب في منطقة أخرى حسب رؤية الحكام في تلك الحقبة القائمة على أسس طائفية ومناطقية ضيقـة منطلقـة من عصبية عمياء تعود الى نظرية المناطق الأصيلة والأطراف التابعة، فيما كان يرى الإمام الصدر بأن أكثر الناس أصالة وأشدهم حرصاً على لبنان هم الذين يدفعون العزم ولغيرهم الغنم ، فاكتشف وضعيـة الانسان في البقاع والهرمل وعكار إمتداداً الى أحزمة البؤس في ضواحي بيروت ، التي ضاقت بالفقراء الذين هاجروا من الأطراف كسباً للعيش وفي ظروف قاسية وضيقة إذ أن الانسان المسلوب حقه من العيش الكريم تصادر حريته حتى بالاحتجاج على هذا الواقع المتردي فالجنوب أرضه يباب وهلك في البقاع وعكار الحرث والنسل فيما رافق المرض سكان أزقة البؤس الذين يعيشون في ظروف غير صحيـة فيما غياب الدولة عن حماية المواطن من تعسف العدو الصهيوني وعدوانه المستمر على مناطق الحدود .



   ولمس الامام أن المواطن أمام مطرقة العدوان الصهيوني وسندان الاهمال والاجحاف في الحقوق وعقوق الدولة في آن . وبدأ تحرك الامام معالجاً ومطالباً ومحتجاً على جبهات عدة من مواجهة حال التردي الاجتماعي الى مواجهـة العدوان الصهيوني وسبق ذلك حضوراً مكثفاً للامام في صور على صعيد نشاطه الديني والخدمـة العامة معتبراً عمله في نطاق الدعوة او الخدمة الاجتماعية أو العمل السياسي جزءاً من واجبه الديني موسعاً نطاق العوة والعمل الديني . 



   وقد نجح في معالجة عدد من المشكلات الاجتماعية وأخذ يتفحص كل حالة وتصور العلاج لها فالعاجز الى مؤسسة خاصة تعنى بالعجزة وكثير العيال تيسير سبل الرزق له والعاطل عن العمل بتأمين بعض المقومات التي تخوله العمل على قاعدة كان يقولها الامام الصدر : أعطي الصياد صنارة ولا تعطه سمكة ، أما الكسالى فأصبح يشار اليهم بالبنان، لذلك توصل السيد الى قناعـة بضرورة ايجـاد مؤسسة كي تستوعب الأيتام وأبناء المحرومين لتكون لهم مهنة عصرية في مدرسة مهنية وللفتاة بيت للفتاة تتدرب فيه وتتعلم وكذلك مؤسسات رعائية أخرى وهكذا انطلق العمل وبدأ الدور وظهرت التوجهات.













* البدء بالتحرك : 



   وكان التحرك الواسع ابتـداءً من الندوات والمحاضرات في نادي الامام الصادق (ع) في صور الى تنشيط عمل جمعيـة البر والاحسان التي أسسها الامام السيد عبد الحسين شرف الدين في صور سنة 1948 حيث قيم عملها بعد مرور سنة على إعادة انطلاقتها بقوة ، فقال عن نشاطات الجمعية في كلمة له في تاريخ 31/12/1961: " نجد أملاً كبيراً هو الأمل بالمستقبل ونجد انعكاس ذلك على نفوس كافة المواطنين واقتنعنا جميعاً بأن تركـز الطاقات وجمع الدراهم القليلة التي كنا نرميها في التراب بشكل الصدقات الفردية للسائلين بالكف ... اقتنعنا ان تركيز هذا يعمل المعجزات ويرفـع الصروح في وقت قليل " .



   وأضاف : ان الجمعية لا يقتصر انعكاسها على طائفة معينة بل هي جمعية خيرية لكافة الطوائف " وهذا صندوقها تدخل فيه الخير من الجميع وهذه يـد الجمعية تمتد لمساعدة الجميع " (36) .



* أداء الامام الصدر واندفاعه للقاء الطوائف يشكل إسهاماً في عملية النهوض الوطني : 

- المشاركة في قداس عن روح البابا يوحنا الثالث والعشرين : (37) 

   لم يتسن للامام الصدر سريعاً التعبير عن كل ما يختلج في داخله من مشاريع وآراء ومواقف ، لذلك كان يغتنم الفرص المناسبة للتعبير عن مشروعـه السياسي الاجتماعي ، ويأتي في مقدمة الرؤية الوطنية والدينية للإمام الصدر مشاركته لإخوته المسيحيين في مناسباتهم المتنوعة ، فضلاً عن توسيع علاقاته باتجاه ممثلي الطوائف اللبنانية عموماً ، والمسيحية خصوصاً ، مع التطلع الى بناء علاقة وطيدة مع المراكز الدينية العالمية لهذه الطوائف .



   وفي 6 / 6 / 1963 شارك الامـام الصدر في قداس أقيم في صور عن روح قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون ، رأسه المطران يوسف الخوري ، وألقى الامام الصدر كلمة بالمناسبة قال فيها : " فقدنا وفقد العالم  قداسة البابا يوحنا، فبكت عليه عيون العدل والمحبـة والحرية والتواضع " ، ورفع الامام بيده (وثيقة السلام على الأرض) التي صدرت عن قداسة البابا قبل وفاته بفترة قصيرة ، شارحاً أهمية ما ورد فيها ، خاصة عن علاقـة الانسان بالدين ، وعلاقة الدين بالإستقرار والسلام العالمي ، وختم الامام الصدر قائلاً : " نحن في لبنان ما أجدر بنـا أن نستفيد من المحبة والتسامح ونرفعها بمثابة صلاة وتكريم لروح قداسة البابا " .



- الامام الصدر يزور الفاتيكان : (38)

   زار الامام الصدر روما ، وأمضى فيها خمسة أيام بضيافة الفاتيكان ، حيث لقي حفاوة بالغة ، وتلقى دعوة  رسمية لحضور حفل تتويج البابا بولس السادس ، وبذلك يعتبر الامام الصدر أول عالم دين مسلم يدخل الفاتيكان ، وهي سابقة تاريخية قدرها المسيحيون والمسلمون على السواء ونشرت معالم الانفتاح عنـد الامـام الصدر ، مع الإشارة الى آراء ومواقف منتقدة لبعض المنزعجين من هذه الزيارة .

  

  وفي محاضرة الوحدة الوطنية والتعايش المسيحي الاسلامي في نادي جرجوع (39) ، حمل سماحة الامام على المتاجرين بالوطنية باسم الدين وقال انهم مساكين أولئك  الذين يعتقدون أن هناك تعارضاً بين الدين والوطنية بل على العكس ان كلاً منها يكمل الآخر وان  تجار السياسة  هم الذين يغذون النعرات الطائفية والمذهبية للمحافظة على وجودهم . 

   ان العيش المشترك كفيل بإنتاج الوحدة الوطنيـة ، هذه الوحدة  لا تعنى كما يعتقد البعض ذوبان الجناح المسلم في الجناح المسيحي أو ذوبان الجناح المسيحي في الجناح المسلم ، بل يعني أن يظل المسيحـي على مسيحيته مئة بالمئة ويمد يداً مخلصة الى أخيه المسلم ، وأن يظل المسلم مسلماً مئة بالمئة ويمد يداً مخلصة الى أخيه المسيحي،فإن بذلك نعيش الوحدة الوطنية فعلاً وقولاً.

   وقـد شارك الامام الصدر في العديد من المحاضرات في العديد من المناطق اللبنانية من بيروت وكنائسها ومساجدها الى جبيل وطرابلس وعكار والبقاع والجنوب وكل لبنان . 

    من محاضرات الندوة اللبنانية في إطار سلسلة محاضرات عن المسيحية والاسلام في لبنان حيث قدم الامام الصدر الاسلام وثقافة القرن العشرين (40) وكان مؤسس الندوة ميشال أسمر ضمن موسم محاضراتها ثلاث محاضرات عن المسيحية وثلاث عن الاسلام وحاضر فيها كل من المطران جورج خضر ، الأستاذ نصري سلهب ، الأب فرنسوا دوبرة لاتور أبـو حلقـة ، السيد موسى الصدر الدكتور حسن صعب ، الأستاذ يوسف أبو حلقة ،  فلقد شكلت هذه المحاضرات الى خلق أجواء الانفتاح ولقاء معاني القيم الفكرية وبدد المزيد من هواجس الخوف والهلع من الآخر تأسيساً لمعالجات وطنية تهم الوطن والمواطن . 



   ان الجميع مسؤول وان التحديات تستهدف الجميع وهذه الندوات واللقاءات والعلاقات ما كانت إلا باكورة نشاط انفتاحـي كانت ولادة لعشرات المحاضرات والندوات التي ألقيت في الكنائس والأديرة ومنها محاضرة في: كنيسة الآباء الكبوشيين - كنيسة مار جرجس المارونية - كنيسة راهبات القلبين الأقدسين في معهد السيوفي الأشرفيـة -  معهد الآباء الانطونيين حيث شاركه ندوته الرئيس العام للرهبنة المارونية الأب روفايل لطيف -  معهد هايكازيان الأرمني -معهد جبل لبنان بحضور المطران جورج خضر، عدا عن جميع الندوات واللقاءات الوطنية  في كنائس صور - صيدا -  النبطية -  مغدوشة -  الفاكهة -  الجديدة -  زحلة ومناطق لبنانية أخرى،(41)ونظراً لحجم نشاط الامام وحضوره في دور العبادة المسيحية فإننا نسلط الضوء على محاضرة كنيسة الآباء الكبوشيين التي وصفت على الشكل التالي :

  " هذا حدث يحصل للمرة الأولى في تاريخ الكثلكة ، يجتمع في الكنيسة مؤمنون لسماع كلمة الله من مرجع ديني غير كاثوليكي ...ويقابل ذلك لا بالإعجاب فحسب ، بل بالتأمل الطويل ، ومن الطبيعي أن يكون موطن الحدث هو لبنان بلد اللقاء والأخوة والتوحيد " .    

   هذا ما قاله الرئيس شارل حلو بعـد سماعـه محاضرة الامام السيد موسى الصدر بعنوان : " القوى التي تسحق والقوى التي تفرق " مساء أمس في كاتدرائيـة مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين ، وهي أولى سلسلة من المحاضرات تلقى لمناسبة الصوم الكبير ...

   وجاء لسماع الآتي من هناك ...

   من الجنـوب ، من الأرض التي مشى عليها السيد المسيح ... يحكـي عن الحريـة والظلم والطغيان والعنصريـة ، وعن الجنوب وإنسانـه الذي يظل شاهداً على لبنان يتحدى اسرائيل وكيانها العنصري جاء لسماع الصدر عـدد كبير من الراهبات والرهبان والمواطنين ، وكان في مقدم الحضور المونسنيور بولس باسيم مطـران اللاتين ورئيس المحكمة الروحية اللاتينية الأب ابراهيم عيـاد والأمير عبد العزيـز شهاب والنقيب رياض طـه والبروفسور فيليب الخازن والصحافي جبران الحايك .

   وبعـد لقـاء بين الصدر والرئيس حلو والمطران باسيم وعدد من الشخصيات في صالـة الاستقبال في الكنيسة ، إنتقلوا الى قاعة الصلاة ، وعند دخول الامام الصدر والى جانبة الرئيس حلو ، كانت علامات الفرح ممزوجة بعلامات الدهشة ترتسم على وجوه الحاضرين ... وساد صمت خاشع عندما إلتفت الصدر الى الذين وقفوا عند دخولهم وحياهم وجلس فجلسوا .



* المشاركة الوطنية مع الطوائف في خدمة لبنان والدفاع عن جنوبه في وجه اعتداءات العدو الصهيوني : 

- إنشاء هيئة نصرة الجنوب : (42)  

   أمام التلكؤ الرسمي والبرودة الحكوميـة في مواجهة الأحداث، وبعد النـزيف الحاد والهجرة القسرية لأبناء الجنوب ، دعـا الامـام الصدر الرؤساء الروحيين في الجنوب لتدارس الأخطار ومعالجـة الوضع ، وتشكلت " هيئـة نصرة الجنوب " برئاسته وعضويـة أصحاب السيادة : المطران أنطونيوس خريش،المطران باسيليوس خوري،المطران يوسف الخوري، المطران جرجيوس حداد، المطران إثناسيوس الشاعـر، المطران بولس الخوري، القس إبراهيم داغر ، وأصحاب السماحة : الشيخ محمـد سليم حمود مفتي صيدا للطائفة الإسلامية السنية ، الشيخ أحمد الزين قاضي شرع صيدا ، الشيخ رؤوف القادري مفتي راشيا للطائفة السنية، الشيخ نجيب قيس قاضي المذهب الدرزي في حاصبيا ، الشيخ سليم جلال الدين ، الشيخ علي الفقيه ، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان ، وتهدف الهيئـة الى تدارس الأخطار المحدقة بالجنوب ومعالجة أوضاعه .

   وبتاريخ 20/5/1970 أقرت هذه الهيئة بياناً أعده الإمام الصدر وأذاعه بنفسه قائلاً : " إن الجنوب لفي خطر ... لا يخالن خائل ، إذا سقط الجنوب ، أن سياجاً من السحر يسور لبنان ، أو خيمة من الغيب تغطي عليه ، وشواهد التاريخ شواهد على أمم بادت ، وأوطان زالت ، وقوميات غدت كأساطير الأولين ! إنهم لنصرة الجنوب ونصرة لبنان ولا تنتظروا وقوع الكارثة  فإما أن تكون شعباً مؤهلاً للبقاء ، جديراً بالإستمرار ، أو شعباً سقط في مستنقعات الوجود ، ثم انسحق بينه دواليب الزمن " .

   وأضاف البيان : " إن عضواً من وطنكـم اليوم يمشي اليه البتر ، إن جزءاً من تاريخكم وهو الأعظم يركض الى القبر ، إن ساعة النفير تدق لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب ويهدد كل لبنان " .



* ارهاصات تأسيس حركة المحرومين :   

   أنكر العهد الجمهوري في لبنان الذي بدأ في أيلول 1970 ، على المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ورئيسه حقهما القانوني في تعاطي الشؤون العامة (43)، فتجاهلت الدولة هذه الحملـة ، ولكن الامام الصدر صعد من تحركه متمسكاً بمطالب المحرومين ، حيث أعلن معارضته للحكام والمسؤولين في لبنان لأنهم يتجاهلون حقوق المحرومين وواجب تعمير المناطق المحرومـة ، مؤكداً أن الحكام بسلوكهم هذا يهددون الوطن وكيانه ، وكان خطاب الامام الشهير بمناسبة ذكرى عاشوراء في بلدة ياطر الحدودية بتاريخ 24 شباط 1974 ، ومما جاء في كلمة الامام : (44)

" المطلوب عدم  الاكتفاء بهذه الاحتفالات  لئلا تتحول الى طقوس ومراسم شكليـة متحجرة يختفي وراءها المذنبون ويطهر الطغاة ذمتهم أمام الشعب بحجة حضورهم المأتـم ، ولئلا  يصبح البكاء والمشاركة في المأتم بديلاً عن العمل وتنفيساً للغضب الثائر والاحتجاج البناء . ولكي لا تصبح الحركة الحسينية مؤسسة وطقوساً علينا  أن  نحاول إدراك  أبعادها والتحرك على ضوء تعاليمها، ان الحسين يحدد سبب حركته بكلمتين :" ان الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه" وها أنا أسأل : لو كان الحسين بيننا وكان يرى أن الحق لا يعمل به ، بل انهم يتمادون في عدم العمل بالحق والاستهتار به ، فماذا كان يعمل " ؟

   ثم قال : " أيها الاخوة ، ان الأساس لبقـاء الأوطان العدالة وكرامة المواطن ، أما في لبنان فمفهوم كرامة الانسان وحريته  باق كواحة ، فالاستئثار والطغيان وتجاهـل حقوق الآخرين تزعزع كيان البلد وتعرض مستقبله للخطر، أما نحن عندما نطالب بالحقوق والعدالـة فإننا نصون وطننا البلد وتعرض مستقبله وحريـة مواطنيه وكرامتهم ، فلتعلموا أن المسؤولين هم الذين يهددون بسلوكهم أمن هذا الوطن وكيانـه واستقراره وتعايش أبنائه وليعلموا اننا لا نسمح لهم بذلك لكي يبقى لبنان .     

   نحن حفظة لبنان كما نحنن مستعدون للدفاع وحمل السلاح ، أنا الشيخ المريض مستعـد أن أحمل البندقية وأقف معكم على الحدود ، أنا على استعداد لكل ما يطلب منا ، لماذا لا يعطون السلاح للجنوبي للدفاع عن بلده ويعطون لغيره ليقيم العصابات والاعتداء على الناس ؟ لماذا تصرف الملايين على غير الجنوب؟ لقد صرف في 4 سنوات 984 مليون ليرة لبنانية ولم يصرف شيء للجنوب وبعلبك والهرمل، أكذوبة الليطاني تدغدغ سمعنا ، لا فلس واحد لليطاني ، كله كذب بكذب على رغم اعطائهم جدولاً زمنياً للتنفيذ .

   فلنصرخ في وجه حكامنا إذا سمعوا : فليعطوا السلاح للجنوبي وليعلموا أن في هذا البلد ابناً مدللاً وابن جارية ومنطقة مدللة ومنطقة محرومة . نريد العدل للجميع والدفاع عن الجميع لأننا على ما يبدو من منطقة صنفت من الفئة الثالثة كما صنف مواطنوها ".

   وفي ظل السكوت عن الاعتداءات الاسرائيلية على الجنوب هو رضى بالذل وخيانة لبنان ، استمرت اعتداءات العدو الصهيوني  واتساعها في الجنوب اللبناني ضد السكان الآمنين العزل المحرومين من وسائل الحماية والدفاع عن النفس ، تنامى عمل الإمام الى مستوى أعمق في اتجاه ايجاد مستوى آخر من التنظيم بحفظ جهد وجهاد حالة الاعتراض على سياسة الدولة ويؤطـر عناصر المواجهة للمشروع الصهيوني . 



*  المهرجانات وولادة حركة المحرومين :

1.  احتفال القسم :  

     أمام الجماهير التي احتشدت على مرجة رأس العين  تلا الامـام الصدر قسماً لربط الناس بعهد في مسيرة  تنظم  فيها الأمور ، لذلك اعتبر احتفـال القسم  في 17 / آذار / 1974

 " يوم انطلاقة حركة المحرومين "، ففي هذا المهرجان الذي ضم أكثر من خمسة وسبعين ألف شخص انتقد فيه الامام الصدر موقف الدولة اللامبالي من الجنوب مطالباً بإنصاف المحرومين في البقاع والجنوب والشمال وكل لبنان مهاجماً الحكومـة لعـدم صرف الاعتمادات المخصصة للتنمية ومندداً بالجيش لعدم دفاعه عن الجنوب قاسماً اليمين بالسعي للمطالبـة بحقوق المحرومين وتحقيقها أو الاستشهاد دون ذلك ، ثم طالب الجماهير بإنشاء مخيمـات للتدريب العسكري في البقاع والجنوب بقوله : " نحن مضطرون الى تدريب أولادنا وتسليحهم كي نحفظ كرامة بيتنا ونحفظ أعراضنا ونؤدي دورنا لصيانة الوطن " . (45)

2.  مهرجان صيدا :  (46)

     بتاريخ 4/ نيسان / 1974 أعلن الامام الصدر عبر مهرجـان شعبي كبير أقيم  في صيدا " نريد الجنوب متمسكاً بلبنان ، الجنوب يدفع ضريبـة الدم والدمار والخوف ، ارفضوا عبادة آلهة الأرض والحكم والطغاة والمستبدين ... خذوا زينتكـم عند كل مسجد ... زينة الرجال السلاح ... الجنوب رأس حربـة ضد اسرائيل وقاعدة لتحرير الأرض المقدسة " ،  في هذا المهرجان تقاطرت الوفود منذ الصباح لتلبيـة دعوة نائب صيدا السابق السيد معروف سعـد حيث استقبل الصيداويون الامام الصدر على مدخـل صيدا الشمالي رغـم هطول الأمطار، واقتصر الوجود الرسمي على دراجتين من فصيلة صيدا سارتا أمام الموكب وتولى شباب التنظيم الناصري تأمين السير على الطرق والمحافظة على النظام . 

3.  مهرجان صور : (47)

     وبتاريخ 5/ أيار / 1974 فتحت مدينة صور أبوابها للزحف البشري الذي قلما شهـد لبنان مثله حيث وصلت الوفود من مختلف مناطق الجنوب والبقـاع وبيروت وضواحيهـا ، وفي هذا المهرجان حـذر الامام الصدر من الأخطـار التي تهـدد المنطقـة والجنوب بقوله : " العدو يتربص بنا والمنطقـة على أبواب الانفجار ونحن لا ندري ماذا يجري وراء الكواليس الدولية في شأن الجنوب ، وهناك أخطار على الجنوب في المستويات الدولية أنا لا أقبل أن اكون عزيزاً ويكون وطني ذليلاً ،  وأنا لا أقبل أن تهتك الطائرات الاسرائيلية أجواء بيروت وكل المناطق اللبنانية ... "

*  اعلان الامام الصدر ولادة أفواج المقاومة اللبنانية -  أمل :

   بتاريخ 5 / 7 / 1975 انفجر لغم مضاد بمجموعـة من الشباب في حقل تدريب في منطقة عين البنية -  بعلبك ، كانوا يتدربـون على الألغام المضادة للدبابـات بإشراف مدرب من المقاومة الفلسطينية ، وفي اليوم التالي عقد الامام السيد موسى الصدر مؤتمراً صحافياً ليعلن عن ولادة أفواج المقاومة اللبنانية - أمـل ، وأبرز ما جاء في مؤتمره : (48)

"  في غمرة الآلام المبرحة ، وبكل اعتزاز أنعي الى المواطنين عموماً والى أبنـاء الجنوب الصامد خصوصاً ، نخبة من الشبان اللبنانيين استشهدوا ... هذه الباقة الحمراء من أزهار الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية " أمل " الذين لبوا نـداء الوطن الجريح الذي تستمر اسرائيل في الاعتداء عليه من كل جانب وبكل وسيلة . 

   انهم استجابوا لله وللرسول عندما دعاهم لما يحييهم ولما يحمي الوطن ويصون كرامة الأمة ، تلك الدعوة التي وجهتها الى اللبنانيين جميعاً في احتفالات ذكرى سيـد الشهداء في عاشوراء السنة الماضية وفي الكلية العاملية، في الأيام التي بلغت الاعتداءات الاسرائيليـة على الجنوب ذروتها ومنتهى قسوتها ولم تقم السلطات المسؤولة آنذاك بواجبهـا الدفاعي عن الوطن وعن المواطنين .

   ان هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنيـة ليست شعارات ولا أرباحـاً ومكاسب ولا متاعاً للمساومة وللعرض والطلب ، بل ان الوطن هو ابعاد وجود الانسان وأساس كرامته ومجال رسالته تجب حمايته بالأرواح والدماء  حتى مع عدم التكافـؤ  في القوى ، ويجب التهيؤ لذلك بسرعة . انهم اتخذوا من موقف الحسين سلوكاً والتحقوا بقافلته ووضعوا أنفسهم قرباناً للحق والعدل انهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها . فشقوا بجهادهم الصامت من دون اعلام طريق التضحيات الوطنيـة ووضعوا الأمور في نصابها الصحيح .

   انهم أكدوا ضرورة توجيه الأسلحة ، كل الأسلحة ، الى صدور العدو وأن لا خلاص من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية إلا إذا توجـه المسلحـون الى الجنوب وإلا إذا نقلت المتاريس والحواجز والأسلحة الخفيفة والثقيلة الى الحدود .

   لذلك فقد انتقمت منهم اسرائيل ولهم الشرف بذلك ، فأصبحت إذاعتها بعد ساعة فقط من الحادثـة تقهقه وتشمت وتحرض وتبالغ وتشجع عملاءها في كل مكان ... وخرقت طائراتها جدار الصوت فوق مكان الحادثة . 

   لكن هذه المحاولات لم يكن ولن تكون يومـاً سبباً لتراجع المجاهدين الشرفاء ولا لترددهم في الاستمرار على الطريق،وقد كتبوا بدمهم ساعة الاستشهاد على ورقة "كونوا مؤمنين حسينيين" وأصر الجرحى في المستشفيات على العودة فوراً الى المخيم لمتابعة التدريب وأعلن ذوو الشهداء رضاهم عما كتب الله لهم صابرين محتسبين لتقديم مزيد من التضحيات . 



* دوافع إنشاء المقاومة اللبنانية -  أمل : 

  إن حادثـة عين البنية في 5 / 7 / 1975، وخروج مشروع الامام الصدر بإنشاء حركة عسكرية الى العلن ، أماط اللثام عن عدة أمور كان الامام الصدر يشعر بوجودها داخل لبنان ، ويشعر بالخطر الذي قـد تتعرض له وحدة الوطن ، والطائفة الشيعية ، فالامام الصدر الذي لم يكن مؤمناً أصلاً ببناء قوى عسكرية جديدة ، كان يعتقد أن أي قوة عسكريـة قد ساهمت في هـدم لبنان ، ولن يسمح للمحرومين  بأن يكـون لهم دور في ذلك ، إلا أن متغيرات عديدة ساهمت في ايمان الامام ، بضرورة قيام هذه الحركة العسكرية لأخذ المبادرة في الجنوب ، حيث الخطر الاسرائيلي اليومي وابتعاد السلطة اللبنانيـة عن القيام بواجباتها في الدفاع عن المواطنين اللبنانيين الجنوبيين . 

   أما المسألـة الثانيـة التي كانت ظاهـرة الى العلن  في ذلك العام ، أي السنة 1975 فهي " انتشار السلاح والتعبئة النفسية " في مختلف المناطق اللبنانيـة وبالمقابل فإن الدولة اللبنانية، ظهرت عاجزة تماماً أمام أي فلتان أمني داخلي ، وبالتالي عاجزة عن الدفاع عن المواطن اللبناني ومؤسساتها بدأت تتحول الى مشاع سيتقاسمه الجميع .

   وقـد أظهر الامام الصدر هذا الأمر بوضوح ، من خلال مؤتمـر صحفي نشر في الصحف اللبنانية ، بتاريخ 11/ 9 / 1975، مبيناً أن الجميع كان على علم بحركة أمل " وان المقاومة اللبنانية ناديت بها منذ عشر سنوات وأعلنت عنها منذ سنة وسبعة أشهر ، في يوم عاشوراء يوم العزاء العظيم ، وطلبت من سكان الجنوب أن يتسلحوا ويتدربوا ، وبعدها بأربعين يوماً ناشدت أهالي بعلبك أن يفعلوا ذلك أيضاً ، وأن يقفوا الى جانب أهل الجنوب يساعدونهم في هذا وذاك ولما امتنع المسؤولين عن سماع الشكوى ، رغم كل النداءات والتوجيهات والضغوط ، وتركوا الجنوب سائباً وابن الجنوب مرتعشاً أمام الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة والمتزايـدة ، ورأيت فعلاً أن المواطن الجنوبي مهدد بالموت أو النزوح أو المهانة، التي لا تقل ذلاً عن الحياة ، شجعت شباناً مؤمنين بالله وبالمواطن ، على التدريب، وقـد علم بذلك رجال السلطة الكبار ، وكبار رجال القوى المسلحة في لبنان بوسائلهم الخاصة ، ولم يكن غرض الاعلان عن هذه المقاومة اللبنانية سوى المواقف العملية، وعلى غرار ما حصل في الطيبة وكفركلا . إلا أن الفاجعة قد كشفت نفسها وفرضت عليّ للإعلان .(49) 



* حركة أمل وأفواج المقاومة اللبنانية (أمل) : 

    هل نبلغ شاطىء الأمان الاجتماعي مع التخلي في الدفـاع عن الأرض في وجه الأعداء والأمثلة ساطعـة عندما كان الأمن الاجتماعي يقايض بالتخلي بالدفاع عن الأرض (قوة لبنان في ضعفه). 



     ان الامام السيد موسى الصدر واجـه المشكلات في لبنان بشكل موضوعي ومتكامل في مواجهـة العدوان والتصدي للحرمان ثنائيـة كانت تحكم خطاب الامام الصدر كنموذج في عملية التغيير الاجتماعي ومحاربة العدوان وازالة الحرمان. 



     وكانت اللقاءات والخطب والمهرجانـات وتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية - أمل لمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية كضمانـة لتشكيل شبكـة أمـان للذين أستبيحت أرضهم وممتلكاتهم وأهرقت دماء أبنائهم ، وكانت حركة المحرومين كحركة ايمانية غير طائفية أو مذهبية بل مطلبية من أجـل المحرومين في لبنان لأي طائفـة انتموا ، لذلك وضع الدراسات وجنـد الطاقات ، وأضف ان هذا السياق في صلب موضوع التغيير الاجتماعي للانتقال من قوة لبنان في ضعفـه الى قوة لبنان في مقاومته وهذا السياق في صلب موضوع التغيير الاجتماعي إذا لاحظنا النشاط الذي اضطلع بـه الامام الصدر ومن معـه في مسيرة حركة أمـل من الدراسات الى أوراق العمل الى المطالب بإزالـة الحرمان ومطالبـة الدولة الغائبـة لتكون حاضرة في إطار عملية التنمية مستنداً الى تقاريـر ودراسات من بعثة أرفد (50) الى سواهـا من الدراسات ، أليست مطالبـة الدولـة بالقيام  بواجبهـا هي إطـار مناسب لعمليـة التغيير الاجتماعي؟  أليست المهرجانات الحاشدة في بعلبك وصيدا وصور وسواهـا بمثابـة صفعـة للذين تجاهلوا مطالب الفقراء والمحرومين من جميع الطوائف وفي جميع المناطق ليستفيقـوا من غفلتهم ، ليكونوا أمناء على مصالح كافة شرائح المجتمع  " أيها الحكام اعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكـم في مجاهل التاريخ "



   ان الحراك الذي نشهده في العالم عبر تحرك شرائح المجتمع والذي أودى بحكام أليس هو في صلب موضوع التغيير الاجتماعي حيث حاول الحكـام سـد الباب أمـام التطور الاجتماعي معتمدين على قاعـدة مارسها الطغاة في التاريخ ، ان تجهيل المجتمع واستدامـة الفقـر ضمانة لإستمرار حكمهم فكان تكديس الثروات بدل التنميـة والاهتمـام بخواص الدائرة الصغرى من الحكام بدل الوصول الى معاناة المعذبين والفقراء والمقهورين. 



    وأيضاً وأيضاً الامام السيد موسى الصدر انموذجـاً في عمليـة استنهاض المجتمع والتغيير الاجتماعي عبر الشروع بتأمين مؤسسات اجتماعيـة هادفـة تنفيـذاً لقناعاتـه الراسخة ان خدمـة الانسان هو المعبر الحقيقي عن الايمـان بالله وهو الذي يصلنـا بالله فكان الاهتمام بالمؤسسات الاجتماعية التي تعنى بالمرأة والرجل والطفـل والشاب والكهـل والشيخ الكبير وعلى مستويـات مختلفـة ، من بيت الفتاة الى معهـد الدراسات الاسلاميـة في صور الى مؤسسة جبل عامل المهنيـة في البرج الشمالي الى مؤسسة الزهراء في بيروت الى مبرة الامام الخوئي من قبلها في صفير الى مشاريع أمن لها الأراضي الشاسعة من البقاع الى بيروت والساحل الى الجنوب ، هذه المؤسسات كان لها الدور والأثـر الكبير في عمليـة التحول المجتمعـي عبر بلسمة العديد من الجراح وان كان للمؤسسات التي ذكرنا من دور واضح على مستوى معالجة بعض الحالات الاجتماعية والتربويـة والثقافيـة ، فلا ننسى مستشفى الزهـراء والعديد من المستوصفات، هذه المؤسسات الاجتماعيـة كانت بمثابـة الأساس والمثال الذي دفع بالعديـد من المهتمين أن يقتفوا الأثـر بـل منهم من تابـع ، وهذه المؤسسات أدت دوراً كبيراً على المستويات الصحيـة والتربويـة والاجتماعيـة ،كمؤسسات أمـل التربويـة التي استمرت على درب الامام السيد موسى الصدر قدوة واقتـداء وكان لي شرف الاشراف على بنائهـا وإدارتهـا بتوجيـه من دولـة الرئيس الأخ الأستـاذ نبيــه بـري وهـي الآن عشرة مؤسسـات تضم ثلاثة عشرة ألف طالب على مساحة وطننـا لبنان ، إضافـة الى مؤسسات صحيـة واجتماعيـة أخرى في إطار حركة أمـل وكشافة الرسالة الاسلامية ، كل ذلك تيمناً برؤية الامام الصدر ، ومؤسسة جبل عامل المهنية التابعة لجمعية البر والاحسان التي رأسها الامـام الصدر المثال في إطلاق هذه المشاريع وكذلك هناك جمعيات أخرى لها طول باع في العمل الاجتماعي وساهمت في عمليـة التغيير الاجتماعي كل هذه الانجازات وأمـام عطاء الامام الصدر ورؤيتـه الصائبـة يشجع المهتمين من مراجعـة هذا الرصيد الرافـد لقضايـا الانسان في عملية التبادل الاجتماعي والتغيير كدور فاعل للمؤسسات في هذا الاطار . 



     وليس غريبـاً ان كان الانسان هو الهدف وذلك  لأن الانسان في نظـر الامـام الصدر يشكل موضوعاً أساسياً للدين والعلم والتشريع والطب والأدب والفن .          



* موقف الامام السيد موسى الصدر من الأحداث والفتنة التي عصفت بلبنان : (51)



   حرص الامـام السيد موسى الصدر على توحيد الصف الوطني الداخلـي لمواجهـة العصر الاسرائيلي وكما حرص على أن يكون الدور الفاعل لجميع الطوائف في لبنان لمواجهـة الخطر الاسرائيلي الذي يستهدف الاسلام والمسيحية على حد سواء ، فلقد نبـه  الى مـدى الضرر الفادح الذي ستلحقه الحرب اللبنانية الداخلية بمستقبل لبنان إضافة الى تداعيات  أقلها سقوط شعار لبنان للتعايش بطوائفه صفعة لاسرائيل، ولذلك أعلن أن اطفـاء الفتنة الداخلية في لبنان هو أفضل وجـوه الحرب مع العدو الاسرائيلي ، لذلك دعـى الى الحوار وإيقـاف الحملات المسعورة لتأجيج الفتنـة رافضاً عزل الكتائب ومتصدياً  لكل محاولات التهجير الهادفـة لخلق مناطق نقية حسب رغبـة البعض ، وكان يعتبر أن تسعير نار الفتنة الداخلية في لبنان  هو وجه اسرائيلي بشع مقدمـة لسيادة العصر الاسرائيلي ، لذلك رفض الحرب الداخليـة واعتصم في مسجد الصفا في الكلية العاملية بتاريخ 27/6/1975 وعلى مقربـة من خطوط إطلاق النار كسابقة سياسية جديدة في الحياة السياسية اللبنانية ، والسبب كمـا قال : " طوال يـوم أمس وليله كنت أتلقى شكاوى الرجال وأسمع بكاء الأرامـل واليتامـى ، وعلى الرغم إني سعيت جهدي ولم أذق طعم النوم،وإن القصف لم يهدأ والأوضاع تزداد سوءاً قررت أن أعتصم.. (52) وجئت أصلي الى الله أن ينقذ هذا الوطن " ، ولكن الامـام وكي يتمكن من التفرغ لمعالجـة الآلام والمحن المتزايـدة وبخاصة مـا يحصل في البقاع ، قـال الامام : " سأنتقل اليها عندمـا أخرج من المسجد أترك الاعتصام وأودع المسجد كـي أنتقـل مع رفاقي الى مسجد الوطن حيث يؤدي واجبنا في حفظ الوطن وأبنائه " . 



* دور الامام في إطفاء نار الفتنة : 

   وفي اليوم الثاني لفك اعتصامه في 3/7/1975 توجـه الامام الصدر الى البقاع ، على أثر الحوادث التي وقعت في بلدات القاع ودير الأحمر وشليفا المسيحيين (53)، وأدت الى مقتل سبعة من أهاليها وأربعـة من المهاجمين ، ولحث مطران بعلبك ونواحيهـا للروم الكاثوليك الياس الزغبي على عدم الاستقالة ومغادرة المدينة نتيجة للأحداث .

   وترأس الامام لقاءً بهذا الخصوص في بعلبك ثم إنتقل الى ديـر الأحمر حيث كان له استقبال شعبي لافت من أهاليها ، بعد أن وعدهم بزيارتهم عندما كان معتصماً في مسجد الصفا ، حيث أطلق نداءه الشهير : " إنني أقول لكم إن كل طلقة تطلق على دير الأحمر أو القاع أو شليفا .. إنمـا تطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي " ، ثـم خاطب أهالي تلك البلـدات قائلاً : " وسأتوجه اليكم في وقت قريب " .

   وانتقل بعدهـا الامام الصدر الى الكرك أحـد أحيـاء زحلة ، حيث أكد على معاني المحبة والتعايش بين الجميع ، ثم الى مقر الطائفة الكاثوليكية في زحلة . ثم أكمل الامام الصدر جولته في البقاع فزار " سعد نايل " وبعلبك ، وعرسال والعين والهرمل ، والقاع واللبوة والنبي شيت وبريتال .

   وحول الحوادث التي وقعت ، قال الامام الصدر : " ان معلوماتي واسعة عن هذه المنطقة ، وتجاربي المتكررة قبل الأحداث ، وما شاهدته خلال اليومين الأخيرين ، تؤكد ان ما حدث فيها كان موجة عابـرة فرضت عليها نتيجة لبعض الممارسات السياسية في بيروت ، وهو بعيد كل البعد عن قناعات أبنائها وتقاليدهم ، وحتى عن مشاعرهم وعواطفهم ... لقد استدرجوا بعض شباب هذه المنطقة الذين يتمتعون بشجاعـة وقوة ، ولكنهم بعيدون كل البعـد عن النزاعات الحاقدة ، لقد استدرجوهم واستثمروا شكيمتهم وبأسهم لغايات سياسة خبيثة ، فانعكس ذلك على المنطقة سلباً .. ان البقاع كان قلعة الوحدة الوطنية والبطولات ، وسيبقى قلعة بطلة لخدمة لبنان والقضايا العربية المصيرية " . 

   وفي 6/7/1975، وبعد جولة طويلة للامام الصدر في البقاع اللبناني ، نقلت جريدة النهار أن الوضع في مناطق بعلبك والهرمل قد عاد الى طبيعته بفضل الجهود التي بذلها الامام الصدر .



   إن أمهات الكتب تزخـر بمواقف الامام الصدر الوطنية ومساعيـه الجبارة لترسيخ العيش الاسلامي المسيحـي والشهـادات من رؤساء مدنيين وروحيين ومسؤولين حزبيين وإجتماعيين كثيرة لا يمكن استيعابها في هذه العجالة ، ولكن السؤال الذي يبقى ماذا لو لم يقم الامام الصدر بهذا الدور الريادي ؟ ماذا لو لم يطفىء نار الفتنة الداخلية ؟ ماذا لـو لم يطفىء نار شليفا ودير الأحمر والقاع والرويسات ؟ ماذا لو لم يشجع الامام على العودة الى النبعـة في ظروف الحرب الفتنة عام 1976 ؟



* الامام الصدر في مواجهة الصهيونية ودعمه للقضية الفلسطينية : 



   إن احتلال فلسطين من وجهة نظر الامام هو اعتداء على كل عربي ، بل كل حر في العالم وهو اعتداء على المسيحية والاسلام باحتلال المقدسات وتدنيسها ، بل حذر من المخاطر التي تجاوز احتلال الأرض الى احتلال العقول مطلقاً على ذلك التهويد الفكري والثقافي وصولاً الى سيطرة العصر الاسرائيلي الذي هو تسود فيه المصالح الذاتيـة والخاصة على المصلحـة العامة والذي تهزم فيه المجتمعات مقدمة لهزيمة الأوطان وكان الامام يردد ان اسرائيل لم تنتصر لأنها تمتلك مقومات النصر بل أن الأنظمة  والمجتمعات انتكبت بمقومات الهزيمة إذ يقول الامام ، إن تفرق العرب قادهم للهزيمة في الخامس من حزيران عام 67 ذلك بأنهم كانوا يحاربون مفرقين بينما اسرائيل تحارب كأمة،(54) لذلك اعتبر الامام ان لا خلاص للأمة مما تعانيه من حال الترنح إلا باعتماد قاعـدة أن فلسطين  هي المكون الجمعي  للعرب والمسلمين والأحرار فيها ، فيقول أعاده الله : " إن معركتنا مع العدو ذات وجوه كثيرة  فهي معركـة حضاريـة طويلـة الأمد متعددة الجهات  وطنية قومية دينية ،انها معركة الماضي والمستقبل " .

   ويخلص الامام، ان مهمة خدمة القدس البعيدة المحتلة واجبـة علينا كمهمة خدمة الجنوب الذي ما زال أمامنا وعلى أرضه نعيش .

   ان الامام يعتقد أن تخلي المسلم عن القدس هو بمثابة التخلي عن الدين وان اقتناء السلاح لقتال اسرائيل بمثابة حمل الانجيل والقرآن في بيوتنا وقلوبنا .

   وأخيراً في هذا الاطار فإن اهتمام الامام بهذه القضية دفعه لتحملهـا الى الأجيـال المعاصرة والواعدة بإدراج بند خاص في ميثاق حركة أمـل ليشكل إطاراً حاكماً  على المستوى الثقافي والسياسي والعسكري بإنطلاقة ايمانيـة رسالية وقـد جاء في الميثاق : " وفلسطين ، الأرض المقدسة ، التي تعرضت ولم تـزل لجميع أنواع الظلم هي في قلب حركتنا وعقلها وان السعي لتحريرها أولى واجباتها وان الوقوف الى جانب شعبها وصيانة مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وايمانها .  سيما وان الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستقبلي على لبنان وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى الانسانية جمعاء ، وإنها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحدياً دائماً لها ومنافساً قوياً لكيانها ". (55)

   ان تحرك الامام لم يكن نظريـاً بل جاء على شكل اداء علمي بدأ  في ساحات المواجهة كما ذكرنا من بنت جبيل الى الطيبة الى مواقع المقاومة في الجنوب والبقاع وبيروت وعام 1982 لم تكن معركة خلدة التي خاضها أبطال افواج المقاومة اللبنانية – أمل  إلا خير تعبير عن الالتزام بالفكر الذي بثه مؤسس المقاومة ومفجر ثورتها الامام المغيب السيد موسى الصدر ، والقافلة تطول... ويستمر الامام في المطالبة بتحصين الجنوب والدفاع عن المقاومة وعن فلسطين ، وهذا ما يكمله رئيس حركة أمـل دولة الرئيس الأخ الأستاذ نبيـه بـري في إطار التنمية والتحرير على رأس حركة أمل . 

* اخفاء الامام الصدر وأخويه الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين : 



 -  الاجتياح الاسرائيلي :    

     وتبلغ ذروة تحرك الامام الصدر ، مع بدء العدوان الاسرائيلي في آذار 1978 على جنوب لبنان ، فيوجه النداء تلو النداء الى مختلف القوى يحثهم على التحرك ، للوقوف في وجه المؤامرة التي تحـاك على الشعب اللبناني ، وبدأت الزيارات الشخصية التي قـام بها الى بعض عواصم القرار العربي وبالأخص دمشق والرياض . (56)

   وقد أثمرت هذه التحركات ، إذ دفعت بالعالم العربي الى الضغط على مجلس الأمـن لإصدار القرار الدولي رقم 425 ، والذي فتح الطريق أمام وصول قوات الطوارىء الدولية الى جنوب لبنان ، لمراقبة تطبيق الاتفاق الدولي ، الذي يلزم العـدو الاسرائيلي بالخروج من المناطق التي سيطر عليها .  

   لقد حمل الامام الصدر العالم العربي مسؤولية الرد على هذا العدوان ، ودعاهم الى أن يقوموا بدورهم لا " أن يتركوا أبناء  الجنوب بعد كل التضحيـات وحدهم يحملون مسؤوليات أكبر قضية في عصرنا أمام أخطر عدو في التاريخ " .

- 1978 : 

   قام بجولة عربيـة على عدد من الرؤساء العرب اثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان حيث وصل وأخويـه فضيلة الشيخ محمد يعقوب والأستاذ السيد عباس بدر الدين الى طرابلس -  ليبيا في 25 آب تلبية لدعوة رسميـة من سلطاتها العليا وانقطـع الاتصال بهم هناك اعتبـاراً من ظهر 31 آب وحتى اليوم .

   ادعت ليبيا أن ضيوفها تركوا الأراضي الليبية متجهين الى ايطاليا ، كذب كلا القضاءين الايطالي واللبناني هذا الادعـاء بعد تحقيقات مطولة ونفيا دخول  أي من الثلاثة موانىء ايطاليا البحرية والبرية والجوية . (57)   

* خلاصــــــة : 

   إن الامام السيد عبد الحسين شرف الدين والامام المغيب السيد موسى الصدر لأن جمعهما وحدة المعتقد والرؤيا والالتزام بالقضايا المقدسة فإنهما واجها ظروفاً قاسية وصعبة عانوا من ظلم العدو وتواني الصديق عن نصرتهما بل كانا عرضة لإعتداء نال من شخصهما وعائلاتهما ، فالسيد عبد الحسين شرف الدين  أحرقت داره في صور ومنزلـه في شحور ولاقى من المستعمر الفرنسي ما لاقى من حملات مادية ومعنوية  مستعينين بعملاء الداخل . 

   أسس المسجـد فعارضوه ، استقطع أرضاً من أراضي الدولة بموافقـة السلطان محمد رشاد فعارضوه ، أسس نادي الامام الصادق فعارضوه ، أسس المدرسة الجعفريـة فعارضوه، أسس مدرسة الزهراء فعارضوه ، وأسس جمعية البر والاحسان فعارضوه . 

   والامام السيد موسى الصدر ، لاقى صنوف المواجهـة والحملات المضللة من قبل القاصي والداني ، كيلت له الاتهامات بهتاناً وزوراً، تصدى بصدره متحملاً عمـق الجراح التي تحفر في القلب حتى صور حرمت عليه  وقال قائل : سأخلق في كل بلـد امـام وهو على منبر الامام شرف الدين ،  أوذي ، نكل بأصحابه واخوانه لأنـه تصدى للحرب الفتنـة داعياً للتفرغ للأعداء وإطفاء النار الداخليـة في لبنان أفضل وجوه الحرب مع اسرائيل ، حوصر في منزل في فردان ، أعتدي على أولاده ، أطلقت النار على طائرة كان يستقلها لرأب الصدع الداخلي ، سخرت صحف لبث الشائعات حوله ، وبالتالي كان يصفعهم بكلمة  الحق " سأبقى القلم الذي لا يغرق إلا من حبر الحقيقة مهما كانت مرة " ، " ولا أحد يحدد لي دوري ، دوري محدد من الله والوطن " .

"  ان شرف القدس يأبى أن يتحرر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء " .

   وبالتالي، لم نشهد قضية في التاريخ تم التستر عليها كقضية اخفاء الامام السيد موسى الصدر وأخويه الذين أخفاهم المجرم المقبـور معمر القذافي وهم أحياء ينتظرون الأخذ بيدهم لتحريرهم من سجنهم في ليبيا ليعودوا الى ساحة جهادهم . 

   يحضرني الحديث الشريف :

   " العَالمونَ كلهم هالكون إلا العالِمون والعاملِون كلهم هالكون إلا العاملِون والعاملون كلهم هالكون إلا المخلصون والمخلصون لهم في خطر شديد " 

   سيدي الامام ، 

شوقنـا لمضارعة فعلك وإنا لفاعلون  .   

عضو هيئة الرئاسة  لحركة أمل

د. خليل علي حمدان

وادي الحجير في :  21 / نيسان  / 2012

المراجـع



(1)   من قصيدة للدكتور الشيخ أحمد الوائلي ألقاها في مؤسسة الشهدي بلال فحص عام 1999 . 

(2)   وجيه كوثراني ، جبل عامل والتاريخ الطائفي اللبناني ، العرفان ، أيلول وتشرين أول 1986 . 

(3)   الشيخ أحمد رضا ، يوميات للتاريخ ، العرفان مجلد 13 ص 989 . 

(4)   جبل عامل تحيط به قرى قبريخا ، مجل سلم ، فرون ، الغندورية ، القنطرة ، فيه نبع وادي الحجير الذي

      يصب قرب جسر القاقعية .

(5)   محمد كوراني ، مجموعة مقالات المؤتمر الدولي لتكريم الامام شرف الدين ، ص 96 . 

 (6)   جهاد بنوت ، حركات النضال في جبل عامل ، دار الميزان 1993 ، ص 213 . 

(7)   العرفان ، مجلد 33 ،، ص 988 ، كلمة الامام شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير .   

(8)   جهاد بنوت ، المرجع السابق ، ص 219 .  

(9)   الشيخ أحمد رضا ، العرفان مجلد 33 ، ص 988 .

 (10)   بغية الراغبين في تاريخ آل شرف الدين ، ص 660 .

(11)  وجيه كوثراني ، محاضرة ألقيت في الجامعة الأميركية ، العرفان مجلد 74 عدد 7 ص 65 . 

(12)   المرجـع نفسه . 

 (13)  محمد علي حوماني ، مجلة العروبة مجلد 1 عدد 20 سنة 1934 . 

(14)   أحمد اسماعيل ، من أحداث 1920 في جبل عامل ، العرفان مجلد 75 سنة 1987 العددان 1 و 2 . 

 (15)   السيرة والمسيرة ، بيروت " دار بلال " ، 1 : 63

(16)   نفس المرجع . 

 (17)  العدالة لن تغيب ، مركز الامام موسى الصدر للأبحاث والدراسات 2011 . 

 (18)   الامام الصدر هو أول عالم دين يدرس في الحوزة العلمية ويلتحق بجامعة عصرية .  

           كتب الامام الصدر في علم الاقتصاد سلسلة محاضرات نشرها في مجلة مكتب اسلام وذلك قبل

         كتابة الشهيد محمد باقر الصدر كتاب اقتصادنا .     

(19)    العدالة لن تغيب ، مرجع سابق ، ص 12 .

(20)  نفس المرجع  .



(21)  مسيرة الامام السيد موسى الصدر ، صادر عن هيئة الرئاسة في حركة أمل ، بيروت : دار بلال .

(22)  الامام السيد عبد الحسين شرف الدين مصلحاً ومفكراً وأديباً، مؤتمر تكريمه، بيروت 18شباط 1992

(23)  يوسف طباجة ، الامام السيد عبد الحسين شرف الدين دوره السياسي والاجتماعي في لبنان والشرق

          الأوسط ، مجموعة مقالات المؤتمر الدولي لتكريم الامام شرف الدين ، ص 37 .       

(24)  بغية الراغبين ، مرجع سابق ، ج2 ص 105 – 106 .   

(25)   المرجع نفسه ،  ج 2 ص 112 . 

(26)   المرجع نفسه ص  458 .

(27)   يوسف طباجة ، المرجع السابق ، ص 65 .  

(28)   مجلة الهدى ، العدد 22 ص 52 ، 1/6/1990 ، صادرة عن المكتب الثقافي لحركة أمل . 

(29)   حسين شرف الدين ، بحث في حياة الامام شرف الدين ، محفوظات حركة أمل .  

(30)   يوسف طباجة ، نشأة الأحزاب السياسية في جبل عامل .   

(31)   مقابلة مع الشيخ حسن بيضون بحضور محمد نصرالله أبو جعفر ، رئيس الهيئة التنفيذية لحركة أمل

          ونجل الامام السيد موسى الصدر ، السيد صدر الدين الصدر وآخرين .

(32)   جعفر شرف الدين ، كتاب الامام شرف الدين مصلحاً ومفكراً وأديباً ، ص 81 – 82 . 

(33)   مجلة العرفان ، م 45 ج 3 ص 738 .   

(34)   رسالة الجعفرية ، ك2 1965 ، المكتب الصحفي في الثانوية الجعفرية في صور . 

(35)   مسيرة الامام السيد موسى الصدر - توثيق الرائد المتقاعد يعقوب ظاهر – الجـزء الأول صفحة 45

           وثيقة 7/3/1960 

(36)   منبر ومحراب الامام الصدر (ص 15)  .

(37)   السيرة والمسيرة – دار بلال 2006 ، صادر عن هيئة الرئاسة لحركة أمل .

 (38)   جريدة الحياة 6 تموز 1963 .  

(39)   ظاهر يعقوب -  مسيرة الامام السيد موسى الصدر ج1  ص 342 .  

(40)   ظاهر يعقوب ، مسيرة الامام السيد موسى الصدر الاسلام وثقافة القرن العشرين ج1 ص 133  

(41)   جريدة الديار ، ياسر حريري ، ما وراء حدود الخطر

(42)   السيرة والمسيرة ، هيئة الرئاسة في حركة أمل ، بيروت دار بلال 2006 ، ج1 ص 217  . 

(43)   الرئيس نبيه بري ، محاضرة مكتوبة في ثانوية الشهيد مصطفى شمران -  البيسارية ، لكوادر حركة أمل

           عام 1991 .

 (44)   محفوظـات المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ، خطبـة الامام السيد موسى الصدر ، تسجيل صوتي

             2 / شباط  / 1974 .

(45)   مسيرة الامام السيد موسى الصدر ، مجلد 4 وثيقة رقم 18 / 3 / 1974  . 

(46)   جريدة النهار ، تاريخ 5 / نيسان  / 1974 .     

(47)   مسيرة الامام السيد موسى الصدر ، مجلد 4 وثيقة رقم 6/5/1974

(48)   جريدة النهار 7 / 7 / 1975 ، نحفزظات المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى .   

(49)   من بيان لسماحة الامام الصدر في مؤتمر صحفي نشر بتاريخ 11 / أيلول / 1975في الصحف اللبنانية

           محفوظات المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ، تسجيل صوتي .     

(50)   ارفد IRFED   اختصار لبداية الكلمات الفرنسية

Institut de Recherches et de Formation En vue du Développement          

 (51)   السيرة والمسيرة ، هيئة الرئاسة لحركة أمل ، بيروت دار بلال 2006 ج2 ص 28. 

(52)   جريدة النهار اللبنانية 28 / 6 / 1975

(53)   مصدر سابق ، السيرة والمسيرة ص  34 .  

(54)   السيرة والمسيرة ج2 ص 286 .  

(55)   ميثاق حركة أمل .  

(56)   مسيرة الامام السيد موسى الصدر ، وثيقة رقم 25 /3 / 78

(57)   العدالة لن تغيب مركز الامام موسى الصدر للأبحاث والدراسات  2011  

0 التعليقات:

إرسال تعليق