السبت، 28 يوليو 2012

السفير : أسرار العلاقة بين الأسد وطلاس


… وأدّعي، وفي عامي الثالث والسبعين سناً، وبعد نصف قرن ونيف من العمل الإعلامي بكل تشعباته وفروعه ووسائله، وفي الصحافة العربية، داخل سوريا، ومن صحيفة «الشام» في الستينيات إلى «تشرين» في السبعينيات وما بعدها وإلى حلول التقاعد عند العام 2004، ومن مجلة «المستقبل» الباريسية إلى صحيفة «المستقبل» البيروتية، ومن إذاعة دمشق عند مطلع الستينيات ابان سنوات الوحدة السورية المصرية، «إذاعة الشرق من باريس»، تلفزيون المستقبل في بيروت… وبعد معايشة ومواكبة لم تنقطع للحراك السياسي والحزبي والعقائدي في سوريا، ومعرفة شخصية بكل نجوم هذا الحراك وأقطابه، من أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ـ والأخيران من أبناء حي الميدان المجاهد الذي انتمي إليه ـ وخالد العظم وصبري العسلي واحمد الشراباتي ـ والد زوجة وليد جنبلاط والذي شهد منزله في دمشق أول لقاء جامع لكل ساسة سوريا بعد سقوط دولة الوحدة مع مصر ـ وعبد الحميد السراج وأحمد عبد الكريم وطعمة العودة الله وكل من تولى وزارة الاعلام وكل من تعاقب على أجهزتها المسموعة والمرئية والمكتوبة من مدراء، وكل من رؤساء تحرير الصحف السورية من المرحوم أحمد عسه إلى صابر فلحوط وتركي صقر واحمد الحاج علي وجبران كورية والياس مراد و و…
أدّعي معرفة بعض البعض عن البعض المتبقي من رجالات سوريا، ومن أبرز وجوهه راهنة الحضور في هذه المرحلة الدامية المؤسفة العماد اول مصطفى طلاس رفيق الرئيس الراحل حافظ الأسد منذ الكلية الحربية وفي العمل الحزبي البعثي، وفي السلطة بدءاً من «ثورة» الثامن من آذار في العام 1963 إلى الحركة التصحيحية في العام 1970، وفي كل ما مرت به تلك الثورة من انقلابات وتحركات وتغييرات واقصاءات وإبعادات واعدامات وتحركات حزبية وعسكرية وسياسية خلال تلك السنوات السبع، والتي انتهت باعتلاء الأسد سدة الرئاسة وتولي رفيق عمره طلاس وزارة الدفاع بعد شراكة حميمة ووثيقة في صنع «التصحيح الأسدي»، وهي شراكة تباهى طلاس بها وروى تفاصيلها بدقة في مذكراته بجزءيها وبشفافية و«براءة» متناهية…
ولطالما تساءل كثيرون ممن لم يعرفوا عن صحبة الأسد الأب وطلاس الأب المزمنة سر سكوت الأول وتجاوزه عن هفوات وزلات لسان وتصرفات وتصريحات الثاني، وهم لم يعرفوا أيضاً ان الأسد الأب قد غض الطرف متجاوزاً ما ارتكبه آخرون من «صحابييه» ومن أبرزهم عبد الحليم خدام وعلي زيود وعلي دوبا وغيرهم.
إذاً، أدّعي الاضاءة على هذه العائلة العائدة إلى المسرح السوري بشخص مناف طلاس، وفي هذا الظرف الذي لا يشهد فيه هذا المسرح إلا العتمة الحالكة، ولا تسمع فيه إلا أصوات القصف والقنص وصرخات الجرحى وآهات المفجوعين، أرامل ويتامى، وتأوهات المتنائين والنازحين والمشردين والمرميين منسيين في الزنازين والأقبية والدهاليز المرعبة، ولا يلعب على خشبته نجم معروف مشهور أو حتى «كومبارس» مغمور…
لقد رافق طلاس الأسد الأب لنيف وستين سنة، وامتدت الرفقة إلى عائلتيهما وترافق نجلا طلاس فراس ومناف مع انجال الأسد، باسل ومجد وبشار وماهر، أطفالاً في الحضانة ثم فتياناً فشباباً فرجالاً، كما وترافقت ابنتا الأسد وطلاس منذ الطفولة وإلى ان اقترنت بشرى الأسد بآصف شوكت وزفت ناهد طلاس إلى الملياردير السوري السعودي اكرم العجة… لكن أجواء العائلتين والبيتين لم تكن متشابهة على أي نحو وفي أي جانب، ونتيجة تزمت وصلابة وجدية حافظ وحرمه السيدة انيسة من جهة، وانفتاح وشفافية ومرح وكرم مصطفى وحرمه المرحومة السيدة لمياء…
ولم يستضف منزل الأسد يوماً إلا بعضاً قليلاً من الساسة والقادة العرب والأجانب، فيما كان منزل طلاس مفتوحاً على مدار الساعة ومائدته ممدودة عند كل غداء وعشاء و«صالونه» جاهزاً لكل جلسة أنس ومجلس أدباء ولقاء مثقفين كتاباً وشعراء وفنانين، واستبعد ان يكون أي فنان نجم أو كاتب مرموق أو شاعر فحل زار دمشق ولم يكن ضيفاً على منزل طلاس الذي رافقت هواية القراءة وحب الشعر وتقدير الكلمة والحرف والقلم كل سني حياته المديدة، ومن هنا أسس داراً للنشر أصدرت مئات الإصدارات الفكرية والأدبية والدواوين، كما وكتب واصدر مذكراته في جزءين وتناولت كل مراحل حياته وبكل تفاصيلها وتقلباتها وأجوائها كاشفاً وبشفافية بالغة عن كل حقيقة عرفها وخطوة خطاها وخطيئة ارتكبها ومعركة خاضها ومغامرة أقدم عليها ناجحاً موفقاً أو فاشلاً خائباً…
ومن هنا، ومن المناخ المختلف في البيتين، والطباع المختلفة بين الرجلين، وبرغم تآلفهما وتحالفهما وتلازمهما، كبر الأولاد مع بعضهم البعض وفي آن معاً وفي جيل واحد وأعمار متقاربة، وامتدت صداقة الأبوين الحميمة صداقة بين الابناء، وعلى النحو نفسه اختلافاً في الطباع والسلوك والاهتمامات والهوايات، كما وتفاوتاً في الاقتدار والوسائل والطاقات والمواهب…
ولا يعرف أحد، ولم استطع ولا استطاع أحد ادعاء معرفة من كان الفنان المفضل لدى حافظ الأسد أو لدى خليفته، مطرباً او ممثلاً أو موسيقياً أو رساماً أو نحاتاً، وكل ما عرفته في هذا الصدد وبلا يقين ان الأسد الاب كرّم وقرّب وربما أعجب وقدّر وفضّل بعض من نحن في صددهم، وأتذكر منهم فيروز ووديع الصافي وصفوان البهلوان، كما ولا أتذكر في مجال الصحافة إلا محمد حسنين هيكل وطلال سلمان والراحلين نبيل خوري واحمد اسكندر أحمد، كما ولا أتذكر من الشعراء إلا محمد مهدي الجواهري الذي آواه شيخاً إلى ان ارتحم ودفن في دمشق التي احبها والذي نظم للأسد ما لم ينظمه المتنبي لأميره الحمداني، ودعا بالسلامة للأسد وللبلد، ومضى الأسد ولم يسلم البلد ولا الولد «سلاماً أيها الأسد، سلمت ويسلم البلد، وتسلم أمة فخرت بأنك خير من تلد».
وهكذا نشأ وترعرع أبناء الأسد وطلاس معاً وعلى صداقة متينة وود متبادل، لكن بمشارب وهوايات وشخصيات ومناقب متفاوتة وطباع مختلفة وسلوك متباين… وتعرف كل مرابع ومطاعم وملاهي ومقاصف ومسابح ومتنزهات دمشق، وكل العاملين فيها والمتعاملين معها وروادها عائلة طلاس فرداً فرداً، ويعرف كل فقراء سورية والمحتاجين من أبنائها عنوان بيتها في دمشق يقصدونه عند الضرورة كما ويعرف كل فناني سورية ولبنان ومصر هذا العنوان وقصدوه بدعوة وبدونها وكرّموا فيه إكراماً فاق توقعهم وتجاوز تصوراتهم، ومثلهم منح هذا البيت عشرات من الناس أعطيات شهرية أو سنوية، وانتظر مئات الفقراء والمتسولين المرحومة ربة هذا البيت عند أبواب المسجد الأموي وجامع الشيخ محي الدين ابن العربي مطلع كل عيد فضيل؟!…
واستطراداً فإن كل أهل دمشق يعرفون فراس ومناف عن قرب او عن بعد إذ كانوا يلتقونهما ومع والديهما ومن دونهما كثيراً، ويتبادلون مع هذه العائلة التحية بلا حرج ولا حاجز ولا رادع، عن بعد او مصافحة او حتى بتبادل القبلات… ولم التق سورية حلوة ولا اعترفت او اقتربت او صادقت انثى غضة بضة سمحة القسمات والتصرفات، إلا وعرفت من خلالها وعبر تفاخرها بأنها من معارف او رفيقات او صديقات واللصيقات بأحد الإبنين او بكليهما في آن معاً او في آنين، وكثيرات تفاخرن بأن الأم او الجدة او كلاهما على علاقة وصلة ومعرفة مع السيد الوالد الدائم الشباب والدائم الابتسام والفائق الحيوية والنشاط «أبو فراس» وإن نال بعضا من كل ذلك رحيل رفيقة عمره وأم أولاده.
ولم يفاجئني سفر طلاس الأب إلى باريس قاصداً ابنته، وربما للمعالجة والاستشفاء، وربما هرباً من الاحراج البالغ الذي عاناه في استقبال اللاجئين إلى بيته الدمشقي من أهله والأقارب والعشيرة والجيران الهاربين من «الرستن» التي أبادها القصف ونالها من الاقتتال المجرم ما نال «حمص» القريبة التي سكنها طلاس الأب طويلاً بحكم عمله العسكري وله فيها ولها فيه الكثير مما باح به وخاض فيه على صفحات مذكراته المنشورة.
كما لم يفاجئني التحاق ابنه البكر فراس وعائلته بالوالد عند الشقيقة الوحيدة، ذلك ان فراس قد نأى بنفسه ومنذ مطلع شبابه عن العسكرة وعن السياسة ودخل مع زوجته وبنجاح واقدام ميادين الأعمال والاقتصاد والتجارة والصناعة.
لكن التحاق العميد مناف بالعائلة كان مفاجأة بكل ما في الكلمة من معان وما يعقبها من حيرة وتوارد أفكار وخواطر واحتمالات وتفاسير… ذلك ان مناف اختار الجندية وربما أمل ان يصبح في مكانة أبيه منصباً وقرباً من القائد ودوراً في القيادة، كما وان ما رشح عن سلوكه وموقعه ومساعيه ودوره خلال الشهور الثمانية عشر من عمر الاقتتال، لم يتعد دور النصح ومسعى البحث عن حوارات مجدية أو الحث على ممارسات أقل اندفاعاً وهمجية وقرارات أكثر جدية وخطوات أكثر أهمية ومواقف أصوب واتصالات وتحركات اجدى…
وهو حظي في كل ما سمعناه وتنامى وتسرب وقيل عن نشاطاته وتحركاته ومساعيه، حظي بحرية لم تتح لغيره من النشطاء والساعين وبفرص كانت حرية بالنجاح لو خلصت النيات، ولو لم تصطدم بالمصالح والمطامع التي غابت عن مناف وهو يسعى وربما حال طيب نياته وصدق مقصده وحسن ظنه دون تحقيق ذلك النجاح وأدى إلى فشل أمضه وأحرجه فأخرجه هذا الخروج المفاجئ…
والمضيء في ما أعلنه مناف بعد خروجه تأكيده الحرص على الدولة ومؤسساتها وعلى تحقيق «التسوية» بأقل ثمن ممكن من الدماء والشهداء والتدمير والعذابات والمعاناة…
والمقلق في غضون ذلك، وهو ما حاولت إضاءته عبر سطوري السابقة عن الفوارق والفواصل والاختلاف البيّن بين مناف وما يعلن وبين بشار وما يعلن ويمارس وبين العاملين على إسقاط النظام بأي ثمن والذين جعلوا من هذا «الإسقاط» شعاراً وحيداً وهدفاً يتيماً دون اتفاق حول النظام الذي سيرث «الوحيد» والمأوى الذي سيؤوي «اليتيم»…
وبين المضيء، والمقلق المعتم المقيم، يظل خروج مناف، ويبقى ما يعلنه عن نياته ومقاصده ومساعيه محطة تفاؤل محاصرة بالشكوك والمخاوف والمخاطر فيما يتوقف فيها قطار السلامة وتتساقط فوقه ومن حوله قذائف متلفة من الجانبين وبغياب فادح الجهالة وعجز أعمى عن رؤية وأدراك حقيقة ان البلد وأهله عند هكذا محطة ومرحلة هو الأهم والأغلى والأقدس.
السفير

0 التعليقات:

إرسال تعليق